طوني عطاالله
Saturday, 13-Dec-2025 07:05
رجال الدولة وانحدار ثقافة الدولة في لبنان

شهد لبنان منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 أحداثاً سياسية مفصلية، أسهمت في تكوين هويته السياسية ومساره الوطني. غير أنّ قراءة عدد خاص صدر أخيراً عن تاريخ لبنان، بدا حريصاً على رصد محطات كبرى في حياة الجمهورية وأحداث كارثية، تكشف فجوة لافتة بين سردية الدولة وسرديات الثقافة. إذ رُكّز على فنون المسرح والشعر والأدب والرقص والغناء والطرب والجمال... بينما غاب بالكامل حضور رجال الدولة ومفكّريها، على رغم من دورهم المحوري في تأسيس المؤسسات وصون السيادة والدستور.

هذه المفارقة ليست مجرّد مسألة شكلية أو تفصيل تقني عابر في طريقة النشر، بل هي مؤشر إلى انحراف مفاهيمي، جعل الثقافة تُختزل تدريجاً في الفنون الاستعراضية، وأقصِيَ الفكر السياسي والدستوري والحقوقي من فضائها، وصولاً إلى إضعاف «ثقافة الدولة» التي شكّلت تاريخياً الركيزة الأعمق لبقاء الكيان اللبناني. ترد عبارة «ثقافة الدولة» مرّتَين في خطاب رئيس الدولة العماد جوزاف عون إلى اللبنانيِّين لمناسبة ذكرى الاستقلال، كتأكيد على مركزيّتها في توطيد أسس الدولة اللبنانية.
1 - الثقافة بمعناها الدستوري والمؤسساتي: تجاهلت المادة المنشورة تعريف الثقافة بوصفها مجموع القِيَم وأنماط العيش والسلوكيات، وليس فقط الفنون والآداب. وهذا التجاهل يؤدّي إلى تهميش مكوّن أساسي هو الثقافة السياسية، أي الوعي العام حول السيادة والقانون والدولة.
ما هو تعريف الثقافة لدى اليونسكو: «تُعَدّ الثقافة، بمعناها الأوسع، مجموع السمات المميّزة، الروحية والمادية، والفكرية والعاطفية، التي تميّز مجتمعاً أو فئة اجتماعية. وهي تشمل، إلى جانب الفنون والآداب، أنماط الحياة، والحقوق الأساسية للإنسان، ونُظُم القِيَم، والتقاليد والمعتقدات». (إعلان المكسيك بشأن السياسات الثقافية، المؤتمر العالمي حول السياسات الثقافية، مكسيكو سيتي، 26 تموز - 6 آب 1982).
Définition de la culture par l›UNESCO:
«La culture, dans son sens le plus large, est considérée comme l›ensemble des traits distinctifs, spirituels et matériels, intellectuels et affectifs, qui caractérisent une société ou un groupe social. Elle englobe, outre les arts et les lettres, les modes de vie, les droits fondamentaux de l›être humain, les systèmes de valeurs, les traditions et les croyances» (Déclaration de Mexico sur les politiques culturelles, Conférence mondiale sur les politiques culturelles, Mexico City, 26 juillet - 6 août 1982).
2 - انعطافة 1969 من مشروع الدولة إلى مشروع الساحة: منذ اتفاق القاهرة عام 1969 ثم إتفاقية قاهرة متجدّدة في 6/2/2006 بدأ المسار التراجعي لكيان الدولة، ثم تعزّز بفعل جولات الحرب بدءاً من عام 1975 والتفاهمات السورية-الإسرائيلية الجديدة التي كرّست لبنان ساحة نفوذ خارجي. هنا يظهر سؤال أساسي: ما الذي يمنع الثقافة السياسية من تحويل هذه التجربة إلى ذاكرة نقدية، بدل الاكتفاء بالفنون كمدخل وحيد للبنان الإبداع؟
3 - إقصاء رجال الدولة وفكر الدولة عن الذاكرة الثقافية: مرور صفحات العدد من دون ذكر أيّ من رجالات الدولة - من واضعي أسس النظام اللبناني إلى المدافعين عنه - ليس خطأً بحثياً بل خيارٌ ثقافي يكرّس صورة مشوّهة: لبنان بلد فنون واستعراض، لا بلد سيادة ومؤسسات!
في حين أنّ تاريخنا حافل برجالات دولة ومفكّرين ساهموا في بناء الكيان: ميشال شيحا، كاظم الصلح، رياض الصلح (الميثاق الوطني 1943)، شارل مالك (شرعة حقوق الإنسان 1948)، فؤاد إفرام البستاني (رئاسة الجامعة اللبنانية)، سعيد عقل (القومية اللبنانية)، أنطون سعاده (لا نريد شعباً يُصفِّق، بل شعباً يفهم/ كل ضعف يُصيب الأمة هو من ضعف نفوس أفرادها)، فؤاد شهاب (المرجعية الدستورية)، ريمون إدّه (السرّية المصرفية ومرحلة الإزدهار)، صائب سلام (لا غالب ولا مغلوب/ لبنان واحد لا لبنانان)، الإمام المغيَّب موسى الصدر (الوحدة الوطنية أمضى سلاح في وجه إسرائيل)، حسين الحسيني (استمرارية عمل المؤسسات الدستورية)، إدمون نعيم (إدارة حكيمة لحاكمية مصرف لبنان في زمن الأزمات)، الياس الهراوي (عهد إنتشال لبنان من الدويلات إلى الدولة)، رفيق الحريري (ما حدا أكبر من بلدو/ ولو دامت لغيرك لما آلت إليك)، غسان تويني (حرب الآخرين/ دعوا شعبي يعيش)، ميشال أسمر (الندوة اللبنانية وثقافة بناء الدولة)، جبران تويني (أقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيين)، إدمون رباط وحسن الرفاعي محمد المجذوب (الفكر الدستوري والقانوني)، وغيرهم... هؤلاء صاغوا فكراً سياسياً لا يقلّ إبداعاً عن أي نتاج فني، بل يفوقه أحياناً في أثره الوجودي.
ومن الجمعيات الرائدة، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم (الدكتور أنطوان مسرّة، بناء الذاكرة الجماعية والعدول عن الحروب، وإرساء ثقافة المناعة الوطنية)، الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية (الدكتور حسن صعب)، الجمعية اللبنانية لمراقبة ديمقراطية الانتخابات (الدكتور بول سالم)، مؤسسات عامل (الدكتور كامل مهنا) صمود الجامعات الكبرى في الزمن الصعب (الأب الدكتور سليم دكاش اليسوعي، الدكتور فضلو خوري).
4 - لماذا «السياسي» خارج الثقافة؟ في المناسبات الثقافية الرسمية اليوم، نلاحظ تحييداً متعمّداً لأي حضور للعلوم السياسية والحقوق والدستور، بينما يُحتفى بعروض مسرحية أو موسيقية فقط. كأنّ الثقافة تحوّلت إلى مادة ترفيه لا إلى مشروع وطني يستولد الأفكار. إنّ المهرجانات التي تُقام في مختلف المناطق اللبنانية لا تُعبّر عن ولا تعكس حالة انفتاح ثقافي في موازاة بيئة إنغلاق وتقَوقع، تنمو الثقافة العميقة الإبداعية خارج هذه البيئة.
أدّى هذا الاختزال إلى انحدار «ثقافة الدولة» إلى حدود الغياب شبه التام، في بلد لا يزال يواجه أخطر التحدّيات الوجودية. وإذا كانت الثقافة في تعريفها العالمي تضمّ السيادة والقانون والقِيَم والمؤسسات، فإنّ السؤال البديهي اليوم: كيف يمكن أن تنهض دولة بلا ثقافة دولة؟
ما نحتاج إليه ليس مهرجانات جديدة، بل استعادة الثقافة بوصفها مشروع وعي وطني، وذاكرة مؤسسة، وإرادة بناء: ليعود لبنان بلداً سيّداً حراً، لا مجرّد مساحة مفتوحة لمشاريع الآخرين.