محمود القيسي
Saturday, 13-Dec-2025 07:02
وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي: أميركا أولاً!

وثيقة «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» هي أميركا أولاً. في 5 كانون الأول 2025، وجّهت واشنطن رسالة واضحة تقوم على إعادة التمَوضع: انسحاب تدريجي من الإلتزامات المفتوحة عبر العالم لمصلحة عقيدة تتمحور حول «البقاء والسيادة والقوّة»، وكما يقول النصّ «في كلّ مبدأ وكلّ فعل، يجب أن تأتي أميركا، والأميركيّون، أولاً».

كما هي عادتها البراغماتية تاريخياً، دائماً ما تُعطي الولايات المتحدة الأولوية في المسائل الوجودية لقوانين مثل «قانون مورفي» أو «قانون ويلسون»، التي استخدمتها وغيرها تاريخياً في مصلحة «أميركا أولاً». وأشهر 5 قوانين براغماتية في العالم هي: مورفي، كيدلين، باريتو، ويلسون، وجزر فوكلاند.
الولايات المتحدة في هذه المرحلة الوجودية، في ظلّ الصراع الدولي «الذكي»، تنوي تبوؤ المقعد الأول في «النظام العالمي الجديد» بشروط قاسية عليها وعلى العالم... اختارت استخدام أقصى حدود البراغماتية المعهودة تحت شعار «أميركا أولاً»، أي الدولة «القومية الكبرى» في مواجهة القوميات العالمية الكبرى الأخرى مثل الصين، روسيا، الهند وأوروبا - بالجملة أو المفرّق - ومشاكل العرب «متّحدين» أو مثل عادتهم دائماً مختلفين.
اختارت أن تقفز بعقيدتها، أو وثيقتها الجديدة، «وثيقة ترامب» التي تُذكِّرنا بعقيدة أوباما، وتستفيد من القوانين الـ5 الأشهر عالمياً كلّها دفعةً واحدة هذه المرّة، بحسب الحاجة والحُجَّة «الوجودية» في سياق البراغماتية الشاملة أو المطلقة. البراغماتية الأميركية مجتمعةً تقول في جمع القوانين الـ5 معاً، في المرحلة الوجودية «المتطرّفة»: «أنا أو لا أحد!».
قانون مورفي هو عبارة عن مجموعة (30) من الأقوال المأثورة والإبيغراما التي تنصّ على أنّ: «أي شيء بإمكانه أن يَسير في الاتجاه الخاطئ، سيَسير بالاتجاه الخاطئ... وكلما خِفتَ من حدوث شيء ما، زادت احتمالية حدوثه». قانون كيدلين: «إذا كتبت المشكلة بوضوح وبشكل محدَّد، فقد حلّيتَ نصف المشكلة». قانون باريتو: «80% من النتائج تأتي من 20% من المجهود». قانون ويلسون: «إذا أعطيت الأولوية للمعرفة والذكاء؛ فإنّ المال سيستمر في التدفّق». وقانون جزر فوكلاند: «إن لم تكن مضطرّاً لاتخاذ قرار بشأن شيء ما، فلا تتخذ القرار».
وثيقة ترامب تعني ببساطة أنّ العالم يعيش مخاضاً يحتاج إلى عملية قيصرية وليس ولادة طبيعية، بالتالي سيكون «شرقنا الأوسط» معها في مواجهة شتاء قارس وعاصف، يُصبح أمامه «الربيع العربي» مجرّد نزهة على شواطئ المالديف!
فقد كشف البيت الأبيض عن وثيقة خطيرة للغاية. الوثيقة هي بمنزلة المخطّط الناظم لأولويات واشنطن الأمنية، ومرجع أيديولوجي، يوجّه الديبلوماسية والإنفاق الدفاعي. وتحمِل توقيعاً صريحاً: انتهاء مرحلة القيادة الأميركية الواسعة وتحوّلها إلى «واقعية تقوم على مبدأ أميركا أولاً». وثيقة تُحدِّد نظرة أميركا للعالم والأولويات الاستراتيجية لها، في عالم عادت فيه النزاعات ومنطق القوّة إلى التحكُّم في العلاقات بين الدول.
وبحسب الوثيقة، جاءت الأولويات الأميركية لتُعلن أنّ المجال الحيَوي الأساس للولايات المتحدة هو الفضاء الجغرافي للقارة الأميركية، وإن أبقت على اهتمامها بمناطق أخرى، من دون المساس بمسلّمة رئيسة، وهي أنّ المصالح الأميركية هي في المقام الأول، ممّا يدفع باتجاه الإعتراف بعالم متعدِّد الأطراف.
فلا بُدِّ من الإقرار أولاً، بأنّ التوجّه الأميركي ليس مرتبطاً بوصول ترامب إلى البيت الأبيض، إذ ظهرت ملامحه منذ ولاية الرئيسَين السابقَين جو بايدن وباراك أوباما، إذ بدأت اهتمامات الولايات المتحدة تتّجه بعيداً عن تحالفاتها التقليدية التي محورها العلاقة مع الدول الأوروبية، إذ كانت تُحرِّكها القِيَم الحضارية والديمقراطية المشتركة. وما كان يُميِّز بين ترامب والرؤساء السابقين فقط، هو أسلوبه المباشر والحاد في فرض المصلحة الأميركية على باقي حلفائه ودول العالم الأخرى.
وثانياً، لا بُدَّ من الاعتراف بأنّ الكتلة الغربية الليبرالية لم تعُد بذلك التجانس والإنسجام الذي طبع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأدّى إلى سقوط جدار برلين ومنظومة الاتحاد السوفييتي والسيادة المطلقة للمنظومة الليبرالية، ممّا أوصل البشرية إلى مناخ علاقات دولية مُعَولمة، تضع الأوطان في مرتبة ثانية.
وجاءت الوثيقة لتُعلِن نهاية هذه المرحلة في العلاقات الدولية وبداية مرحلة أخرى: حجر الزاوية فيها سيادة الأوطان وموازين القوى على الأرض، ما يعني في المنظور الأميركي الاستراتيجي، أنّ الدور المحوري الأوروبي في العلاقات الدولية ولّى وانقضى، وأنّ عامل الهجرة أربك التطوّر الطبيعي لدول أوروبا، ما أدّى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والتفسُّخ الحضاري الأوروبي والانهيار المحتوم، ما يعني ويُفسِّر الإصرار الأميركي على إنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية بكل الوسائل، حتى وإن كانت على حساب الجانب الأوكراني، لأنّ الأساس في التقدير هو إنهاء الحرب والعمل على مسائل أكثر جدوى وأهمّية.
وتُعتبَر العودة إلى المصالح التجارية بين الدول عصب العلاقات الدولية التي تُبشّر بها وثيقة الأمن الاستراتيجي الأميركي، ممّا يُفسر دعوة الدول الأوروبية وشعوبها إلى فسح المجال أمام قوى أحزاب اليمين لبناء دولها على أساس وطني وقومي، لتجاوز أزماتها الاقتصادية والحضارية والقِيَمية. وما يفسّر ثانياً اعتبار الصين مجرّد منافس اقتصادي وليس عدواً استراتيجياً كما كان في السابق، على رغم من الإبقاء على استقلالية تايوان سيفاً مرفوعاً في وجه بكين.
ولأنّ الأساس في التصوّر الأميركي هو المصلحة الاقتصادية، أولت الوثيقة اهتماماً لافتاً للعلاقة مع الهند، بحُكم توازنها الاقتصادي والديمغرافي، وكذلك الأمر في العلاقة بدول ومناطق مختلفة.
ويتبيَّن بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ مساعي ترامب لفرض السلام في العالم، هي لتنقية مناخ المال والأعمال والمبادلات التجارية، ما يُسهِّل على الولايات المتحدة تحقيق مصالحها وأهدافها.
أقوى واهم توصيف مختصر لشعار «أميركا أولاً» هو: الأولوية للمصالح الأميركية القومية فوق كل شيء، عبر سياسة خارجية براغماتية، تُركِّز على الداخل وتقلّل التزامات الخارج، وهو يعكس نهجاً يَميل إلى القومية و»عدم التدخُّل»، ويُركِّز على التجارة الحمائية وإعادة التفاوض مع الحلفاء، لتحقيق مكاسب أميركية خالصة، كما يصفه النُقاد بأنّه: «أميركا وحدها!».