لم تقتصر الإبادة الأرمنية على الإبادة الجسدية للشعب الأرمني. فقد تجاوز نطاقها عمليات القتل الجماعي، وسعت إلى القضاء على كل أثر لوجود الأرمن: لغتهم، ديانتهم، تراثهم وذاكرتهم. أصبحت الإبادة الثقافية عنصراً جوهرياً في هذه الجريمة، واستهدفت الرموز الأساسية للهوية الأرمنية، من تراث ديني وأدبي ومعماري.

تشير الإبادة الثقافية إلى الأفعال المتعمدة التي تهدف إلى تدمير الأسس الثقافية لشعب ما، وتشمل تدمير المعالم، المؤسسات الدينية، المقابر، ومحو التقاليد التاريخية والفكرية. وقد أكّد رافاييل ليمكين، الباحث القانوني الذي صاغ مصطلح "الإبادة الجماعية"، أنّ هذا المفهوم لا يشمل الإبادة الجسدية فقط، بل أيضاً التدمير المنهجي للحياة الثقافية والروحية لمجموعة ما.

ومن أوائل الأمثلة وأكثرها منهجية وقعت خلال الإبادة في أرمينيا الغربية، حيث نُهِبت ودُمِّرت الكنائس والأديرة والمخطوطات والقطع المقدسة. وفي بعض الحالات، باع العثمانيّون مخطوطات أرمنية لا تقدَّر بثمن في الأسواق الأوروبية، أو استخدموا الكتب كمادة لتغليف المواد الغذائية. لم تكن هذه الأفعال أضراراً جانبية، بل جهوداً مقصودة لمحو وجود الشعب الأرمني من أرضه التاريخية.

من المجازر الحميدية (1894–1896) إلى الإبادة الجماعية الأرمنية (1915–1923)، فُقِدت آلاف المخطوطات الأرمنية التي تناولت مواضيع لاهوتية، فلسفية، علمية، أدبية وقانونية. لم تكن هذه المخطوطات مجرّد تراث أرمني، بل جزء من التاريخ الفكري الإنساني المشترك. وعلى رغم ممّا فُقِدَ، أُنقِذت بعض المخطوطات بفضل شجاعة أفراد خاطروا بحياتهم للحفاظ على ما تبقّى من تراثهم.

لكنّ حملة محو التراث الأرمني لم تنتهِ بالإبادة. ففي العقود التالية، واصلت تركيا هذه الجهود من خلال تدمير أو تحويل الكنائس والمعالم الأرمنية في أرمينيا الغربية (التي تُعرف اليوم بالأناضول الشرقية). وبحلول عام 1923، كان العديد من هذه الصروح قد دُمّر أو تضرّر بشدة. إلى جانب التدمير المادي، ظهرت ترميمات مزيّفة كوسيلة للتلاعب الثقافي. فعلى سبيل المثال، أثناء ترميم مدينة "آني"، العاصمة الأرمنية في القرون الوسطى، غُيِّر شعار النبالة الأرمني المحفور على جدران التحصينات - في محاولة واضحة لطمس الهوية الأرمنية للموقع.

يمتد تدمير التراث الأرمني اليوم إلى ما هو أبعد من تركيا. ففي الأراضي الأرمنية المصادرة والخاضعة لسيطرة أذربيجان، مثل جمهورية أرتساخ (ناغورنو كاراباخ) وناخيتشيفان، دُمِّرت أو حُوِّلت العديد من الكنائس والمقابر والمواقع التاريخية الأرمنية بشكل منهجي. ومن أبرز الأمثلة، تدمير مقبرة "جلفا" في ناخيتشيفان، حيث هُدّمت آلاف الأحجار الصليبية الأرمنية (خاتشكارات) في أوائل القرن الـ21. وقد اعتُبر هذا التدمير أحد أكثر أشكال الإبادة الثقافية فداحة في التاريخ المعاصر. (The Guardian, 2019)

في الآونة الأخيرة، أدّت الهجمات العسكرية الأذربيجانية في عامَي 2020 و2023 إلى تصعيد خطير في تدمير التراث الأرمني. فبعد تهجير أكثر من 100,000 أرمني قسرياً من منازلهم التاريخية في أرتساخ، أبلغت منظمات حقوقية متعدّدة، من بينها "فريدوم هاوس"، عن حالات مروّعة من العنف شملت مقتل مدنيِّين وتشويه جثثهم. وفي أعقاب هذه الأزمة الإنسانية، تُركت العديد من المواقع الدينية والثقافية الأرمنية من دون حماية. وأكّدت صور الأقمار الصناعية وخبراء مستقلون وقوع حالات تشويه وتغيير وتدمير للكنائس والمقابر والخاتشكارات الأرمنية في مختلف أنحاء الإقليم. ومن أبرز الأمثلة، كاتدرائية "غازانشيتسوتس" في شوشي، التي تعرّضت للقصف خلال حرب 2020، ثم خضعت إلى "ترميمات" مثيرة للجدل تحت إشراف أذربيجاني. (Wall Street Journal, 2023)

في تشرين الثاني 2020، جدّدت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، التأكيد على الالتزام الدولي بحماية التراث الثقافي في مناطق النزاع، واقترحت إرسال بعثة مستقلة إلى ناغورنو كاراباخ لتقييم المواقع الأرمنية المهدّدة. إلّا أنّ التأخيرات المستمرّة وعرقلة الوصول منعت أي تقييم أو تدخّل فعّال، ممّا زاد المخاوف من أضرار لا رجعة فيها. (UNESCO, 2020)

وقد حذّر باحثون وخبراء تراث من أنّ ما يحدث في الإقليم يُشكّل اختباراً حاسماً لأنظمة الحماية الثقافية العالمية. وأكّد البروفيسور آدم تي. سميث من جامعة كورنيل، أنّ الفشل في التحرّك قد يؤدّي إلى فقدان دائم لمناظر ثقافية أرمنية تعود إلى العصور الوسطى والحديثة المبكرة (Cornell University, 2020)، وعلى رغم من هذه التحذيرات المبكرة، لا يزال الوصول إلى العديد من هذه المواقع محظوراً، ومصيرها مجهولاً.

بالإضافة إلى ذلك، شملت سياسات أذربيجان تغيير أسماء المدن والتلاعب بالمواقع التاريخية لتبدو "متركزة ثقافياً" نحو الطابع التركي - وهي محاولات مدروسة لقطع الصلة العميقة بين الأرمن وأرضهم التاريخية.

وتشمل هذه السياسات أيضاً تغيير معالم الطبيعة لاستخدامها في مشاريع مثل الطاقة المتجدّدة، والتي وُجِّهت لها انتقادات بأنّها تغطي على المعالم التاريخية (Wall Street Journal, 2023). ويأتي هدم المركز الأرمني في ستيباناكيرت في كانون الأول 2023 كدليل إضافي على حجم الإبادة الثقافية.

على الصعيد الدولي، قوبلت هذه الأفعال بالإدانة، إذ اعترف البرلمان الأوروبي بانتهاك الحقوق الثقافية ومحو التراث الأرمني بشكل ممنهج في الأراضي الخاضعة لسيطرة أذربيجان. إنّ أهمية الحفاظ على هذه المواقع لا تمثّل فقط قضية أرمنية، بل تمثل مسؤولية إنسانية شاملة. ففقدان الكنوز الثقافية التي لا تعوّض، من كنائس ومخطوطات ومعالم، هو خسارة للتراث العالمي.

في الختام، لم تكن الإبادة الأرمنية مجرّد مذبحة جسدية؛ بل كانت ولا تزال هجمة ثقافية شاملة تهدف إلى محو الهوية الأرمنية. إنّ استمرار تدمير التراث الثقافي الأرمني يبرز الحاجة الملحّة إلى تحرّك دولي. تقع مسؤولية حماية هذا الإرث على عاتق المجتمع الدولي، الذي يجب أن يُترجِم التزامه بالحفاظ على التراث الإنساني إلى خطوات ملموسة. إنّ الإبادة لم تنتهِ، فهي مستمرة، وجُناة الأمس لا يزالون من دون محاسبة.