يعمل الروائي الكويتي بسام المُسلم في روايته الأولى «وادي الشمس» على بناء بيئة نصيّة تتناوبُ عليها القصص ويتمدد فيها المكان على إيقاع حركة الشخصيات، ويتأرجح عنصرها الزمني بين تواريخ مشحونة بأبعاد درامية.
أكثر من ذلك، فإنّ كلمة الإهداء والملفوظات الواردة ضمن العتبات تُشكّل محفّزات لعملية القراءة، كما أنّ العنوان الظل «مذكرة العنقاء»، الذي يرافق العنوان الأساس، يفتحُ أفق الاحتمالات بالنسبة لما تضمّهُ أقسام الرواية.
وبذلك، يزداد التوترُ في البرنامج السردي، خصوصاً إذا أضفتَ إلى ما سبق الإشارة إليه تقنية المدوّنة التي تطلق تيار السرد. وتصبحُ قواماً تنتظمُ به المُعطيات التي تنهضُ عليها هيكلية الرواية، ويكتسبُ عنصر الشخصية في تسلسل الأحداث دوراً محورياً في تزخيم حركة السرد.
هنا، يتصدّر فواز واجهة المشهد باعتباره صاحب المدوّنة التي سجّلَ فيها شذرات من يوميات رحلته في أميركا، ومن ثُمّ ما عاشه في سوريا عندما ينضمُ إلى جبهة النصرة. لذا، فإنّ السرد في بعض مفاصله يتّخذُ منحى توثيقياً لرحلة فواز وتحوّلهِ من شخصية مُنغمسة في الملذّات إلى مُقاتل في صفوف الجماعات المُتطرفة.
السرد التلغرافي
ينفتحُ فضاء الرواية لشخصيات متنوّعة، وتتقاسمُ الأمكنة المُتباعدة وظيفة الإطار للحدث من دون أن يكون ذلك على حساب انسيابية القصص التي تتوالى على مدار الرواية. وما يحققُ توازناً بين كلّ ذلك هو خفّة السرد الذي يأتي أقرب إلى ما يسمّى بالتلغرافي، إذ وفّق الكاتب في توزيع مادته على مساحات مُحدّدة متحاشياً الانسياق وراء الجمل المطوّلة والوصف المُسهَب.
والأهم هو التواصل بين محتويات الرواية وخطاب العتبات، بدءاً من العنوان الذي يشير إلى مدينة أريزونا حيث أمضى فواز شطراً من حياته هناك، وذاقَ فيها طعم الحب ومرارة خسارة الحبيبة كلوديا. فلا تُغادرُ الأخيرة ذاكرة فواز وهو أصبحَ من المُبايعين لأبي محمد الجولاني. أضفْ إلى ذلك، فإنّ مفردة العنوان مع تحوير بسيط في الكلمة الأولى تُحيلك إلى مخاوف الوالد من مواجهة مصير الكاتب الذي انتحر في ولاية أيداهو الأميركية.
والشخص المشار إليه على لسان الروائي الكويتي هو أرنست همنغواي، وهذا ما يحدو به للإقامة خارج بلده إذ يتمُّ الاحتفاء بمؤلفاته في بريطانيا، ويصفه أحدُ النقاد الانكليز بـ»بن جلون» الانكليزي. والملاحظُ في المسلك السردي هو التلميح إلى تقنية الرواية داخل الرواية، إذ يفهم بأنّ الكاتب الكويتي بصدد كتابة رواية مُستقبلية بعنوان «الشتاء النووي»، تتناولُ نهاية الحضارة جرّاء زلزال يصيب مفاعل «بوشهر».
لا تنقطعُ قصة الراوي عبد القادر مع خطيبته عواطف عن حيثيات السرد، واللافت هو توارد أشكال لغوية مُحاكية لِما هو متداول في تطبيقات وسائل التواصل الحديثة. ما يعني أنّ الفضاء الافتراضي متداخلُ بلحمة النص، وهذا ما يظهر أكثر في الرسائل المُتبادلة بين الراوي وخطيبته، كما أنّ المقطع المرئي الذي يتلقّاه عبد القادر من أخيه حيث تظهر امرأة سورية يركلها أربعة جنود، مؤشّر للتطوّرات اللاحقة في الرواية. إذ يتموضعُ المتلقّي موقع الراوي مُتابعاً من منظوره محتويات المدوّنة، وهي عبارة عن يوميات فواز في سوريا.
المجهول
المغلّف الذي يتضمّن قصة فواز ورحلته إلى سوريا يكون نواة للرواية، إذ تصلُ حزمة الأوراق إلى عبد القادر عن طريق رجل غريب يخبرهُ أنّ الأمانة قد عثرت عليها قافلة الاغاثة في سيارة مسافر ضَلّ طريقه في صحراء الأردن، ولا يذكرُ الرجل تفاصيل الأمر، ويكتفي بأنّ المُغلف تداول بين أيدٍ كثيرة قبل أن ينتهي إليه.
يشار إلى أنّ الراوي يهمّه إيراد تواريخ زمنية وعبارات محدّدة لخصوصية الأزمنة، كما يكون السرد أداة لنقل محتويات مرئية أو صوتية، وذلك من المؤثرات التي تكرّس التنوّع في أجواء الرواية. فبينما يتابعُ المتلقّي الحديث بين الرجل الغريب والراوي في صيغة حوارية، يتدخّلُ صوت ليُعلن موعد الإفطار، وهكذا تتناوبُ الأصوات في فضاء السرد.
إضافة إلى ما يردُ في المدوّنة، يستعيد الراوي ذكرياته مع أخيه وما شهدته حياة الأخير من التحوّلات وتجربته العاطفية مع الأميركية كلوديا، إذ ترك موتها على مرأى منه بعد سقوطها من دراجة نارية جرحاً عميقاً في نفسيته.
بعد غياب كلوديا ومشعل، تدخل حياته مرحلة جديدة ويتّجه أكثر إلى التديّن، ويتعرّف إلى شعلان السعودي الذي كان يتحدث أمام جمع من الطلبة عن إساءة تصرّف عناصر الأمن الأميركي مع مبتعثين مسلمين على متن طائرة متّجهة إلى واشنطن.
يوردُ في هذا السياق أسماء الصحف التي تابعت الموقف ونشرت الخبر، وكان ذلك بداية لصداقة فواز والمُبتعث السعودي، ويكتشفُ ابن عائلة النسر المسجد القائم بأسفل جبل «تمبي». والغريب في الأمر هو كلام شعلان الذي يوحي بتضخيم ردّ الفعل على تفتيش الطائرة.
إذاً، يغدو المسجد ملاذاً لفواز، كما يمرّ عليه أشخاص يُشاركون في هجمات 11 أيلول، الحدث الذي يلقي بظلاله على كل مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية. طبعاً ما يصعّدُ التوتر في النص الروائي هو عنصر المُفاجأة التي تَشدُ المتلقّي إلى مدار الأحداث، إذ يُبَاغتُ فواز وهو في صفوف جبهة النصرة بوجود أحد عناصر المكتب الفيدرالي الذي كان مكلّفاً بمراقبته بعد الثلاثاء الأسود.
يقومُ بتزويد المقاتلين بالأسلحة، وهنا يعود العميل الأميركي إلى تذكير فواز بتأييد بلاده للمجاهدين في حربهم ضد السوفييت، ولا يستغرب إذا تحوّلت سوريا إلى رقعة الشطرنج بعد أفغانستان.
وفي ذات السياق، ترشحُ المعلومات عن نظرية المؤامرة في واقعة أيلول، ويغطّي السردُ وقائع الحرب السورية وانشقاق الجماعات المسلّحة، ولا يلجأ المؤلفُ إلى الرمز في تسمية الأحزاب والدول الضليعة في تغذية نار الاقتتال، وتُحيل بعض التفصيلات إلى نصوص أخرى، منها ما عاشه وائل من مأساة إبادة أفراد أسرته وهو يشاهدُ نهايتهم من مخبئه في جوف البرميل، وهذا يذكّرك ببطلة «بلا دماء» للإيطالي أليساندرو باريكو، غير أنّ نقمة وائل على النظام يتم استغلالها حيث يفجّر نفسه في سيطرة مدخل معلولا، وما يراه فواز في بلدة معلولا يُعيد كلوديا إلى ذهنه. وما تصفحُ عنه هواجس فواز هو توتره الذي تعبّر عنه أسئلته حول خيوط الحرب المُتشابكة والمفارقات التي تداهمه في مواقف زعماء الجماعات المُسلّحة، فكان يرى في أحدهم مواصفات الدجال.
تتواصل متابعة المدوّنة إلى أن ينتهي النصّ الموازي برحلة فواز مع لميا إلى الأردن، كما تُضاف نهاية أخرى إلى بنية الرواية بنجاح العلاقة بين الراوي وعواطف، وانتقال المُغلف إلى الوالد يُذكّرُ أنّ صاحب الرواية قد أشار سابقاً إلى أنّ خبراً صحافياً عن موت زوجين قد ضَلّا الطريق كان حافزاً للشروع بكتابة عمله الأول، فضلاً عن التفاعل مع المصدر الخبري والتطبيقات التكنولوجية الحديثة التي تأخذ حيّزاً واسعاً في مساحة الرواية، علماً أنّ لوحة النجوم لفان غوغ تحتلّ مكانة مهمة في متنها.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الرحلة من ثيمات مشتركة في معظم الروايات التي تناولت الحرب السورية، وهذا ما تجده في «الذئاب لا تنسى»، «الموت عمل شاق»، و«سيرة الفراشة».