في روايته الشهيرة «دعاء الكروان»، والتي انتقلت إلى السينما في ما بعد لتتربّع على عرش الدراما الكلاسيكية المتوهّجة بنور الحقيقة، يسلّط الضوء على قصة آمنة وهي المجهر المكبّر المعبّر المونولوجي في القصة، وأختها هنادي، تنزحان مع أمهما من قريتهما إلى القرى النائية بعد أن يطردهنّ أقاربهنّ بسبب سمعة الوالد السيئة التي ذهب ضحيّتها قتلاً على يد أهالي فتاةٍ تحرّش بها، وبلا ذنب اقترفنه، ولا إثم تجرّأن عليه، يحكم عليهنّ بالترحال بعد أن فقدن المعيل الأساسي لهن.
ثم يأتين مدينة صغيرة، فتعمل الأم لدى إحدى الأسر الريفية الطيبة، بينما تعملُ ابنتها هنادي في منزل مهندسٍ عازبٍ، وتجد آمنة عملاً كمربيّةٍ مرافقة لابنة مأمور المدينة خديجة التي تماثلها في العمر، وتعتبرها بمثابة أختها، وتستفيد منها في القراءة والكتابة والتفكير العلمي والمطالعة.
تسيرُ الأمورُ بِدعة أوّل الأمر، وتدأب الثلاثة على اللقاء مرّة في الأسبوع في منزلٍ حقيرٍ مبنيٍّ من الطين استأجرته الأم حتى يتسنّى لها رؤية ابنتيها. تصاب آمنة بالدهشة بعد مرور زمن قصير، عندما تتّخذ الأم فجأة قرار العودة إلى قريتهن ليجتمعن مع أقاربهن من جديد، وتقرأ علامات الذهول والأسى في ملامح أختها هنادي التي تشيح بوجهها مكفهرّة وهن في طريقهن إلى موطنهن من جديد.
في الطريق يأويهن عمدة إحدى القرى في انتظار خال الفتاتين، حيث يأتي لاصطحابهن إلى القرية، وسط نوبة فرحٍ عامرةٍ تخطر للأم التي ترى فيه حمايةً لها ولابنتيها من الخطر الداهم المحدّق فيهما بعد أن تنجلي الحقيقة لآمنة وهي أن أختها هنادي وقعت في براثن الخطيئة مع المهندس الشاب الذي أغراها بحبائل العشق فتراخت وتهوّرت ودفعت الثمن عذريتها.
وخلال السفر، يتوقف الخال فجأة ويغمد السكين في صدر هنادي فتتهالك على الرمال وتتناثر منها خيوط الدماء تشيّع الجهل الدامي البربري بروح بريئة نهبت من أجل التقاليد المتوارثة البالية. تعيش آمنة كابوساً حقيقيّاً بعد أن تقع مغشىً عليها وتستفيق في قريتها فتتحاشى رؤية أمها التي اعتبرتها السبب الرئيسي لانتهاك روح هنادي بسبب اعترافها الآثم لخالها بما جرى، وهي تعلم بعادات قبيلتها وغلاظة عقولهم، فتقرّر الهرب وتعود إلى منزل المأمور الذي عملت فيه، وتفاجأ بعد أيام بالمهندس الشاب الذي أغرى أختها يتقدّم لخطبة خديجة فتضطر للبوح بالسرّ لأهل الفتاة وتلغى الخطوبة، ثم تنتقل للعمل في منزل هذا المهندس، بتخطيط مسبق منها للانتقام منه.
يحاول المهندس العبث بآمنة كما فعل بالكثيرات من الخدم من قبلها، فتتصدّى له بروح شرسة، ولا تمكّنه من نفسها، فتجعله أسير هواها، يتصبّب شوقاً للاختلاء بها، ترغّبه وتتمنّع عنه، تشجّعه وتصدّه، تؤمله وتنكره، حتى يتخاذل أمامها ويقرّر اخيراً بعد مناورات شرسة بينهما، ومعارك ضارية، واستسلام مخز من طرفه أن يتزوجها، فتصارحه بالحقيقة التي أخفتها عنه، بعد أن عشقته هي الأخرى رغماً عنها، فيصفح وتصفح، ويضمّان جرحيهما لينصهرا في تضرّج نادر للحبّ الحقيقي.
الرواية بسلاسة حبكتها، ومتانة التسلسل المنطقي للحدث الأوّلي والمبدّل، تحتوي على الكثير من الأفكار الفلسفية التي يعرضها طه حسين في قالبٍ إنسانيٍّ فادح العار، حيث يستعرض المجتمع الهش الجاهلي بإطار روائي، فالجهل في التعتيم الصارخ على ما يسمّى ممنوعات في المجتمع الشرقي، يولّد الرغبات المدسوسة في عبّ الحرام، ويحثّها على العمل والتفريج عن كبتها، ثمّ يأتي العقاب اللا إنساني واللا مبرّر ليجتزّ جسد صاحبتها، لتسأل بأيِّ ذنب تقتل، وهل الأرواح ورقة في يد السفّاح لمجرّد أنّه ولي أمرها، ليصدر حكمه بالإعدام بلا تروٍّ أو جدل.
والانتقام الذي شرعت به آمنه، يعز للقارئ عمق المأساة الجارحة التي تعرّضت لها، حيث تراءت لها صورة أختها المضرّجة بدمائها تستغيث بلا مغيث، والجاني خالها الملوّثة يداه بدمائها لا يأبه بما اقترفه، وحتى أمهما تقف عاجزة عن الاعتراض والصراخ، كأنّ الأمر المبرم بيده، أو أنّه نصب نفسه إلهاً يعطي شرائع الحياة والموت حسبما يتفق له.
طه حسين يجزّئ الإنسان إلى شرائح بلّورية من الأحاسيس، منها ما ينمّ عن الانتقام، والحقد، والكبت، والتهوّر والتسامح والحب، ثمّ يعود لهموم المجتمع التي تجمّعت كتلة من النقائص البالية التي تعتبر عقدة الشرق الأولى في تصنيف المرأة وحقوقها المهدورة، فسبق عصره في انتفاضة حاسمة لمعنى الشرف والعدل.