كانت أصابع أوروبا وإفريقيا تكاد تلتقي، وبينهما، عند نهاية ساعة ذهبية، اندمجت الشمس مع الأفق. ومع تحوّل السماء من البرتقالي إلى الأرجواني، باتت الحواف المسنّنة لأقصى شمال المغرب أكثر وضوحاً. كان ميناء طريفة في إسبانيا يصغر شيئاً فشيئاً، لكنه لم يختفِ أبداً. وقد وصف لوري لي البلدة بأنّها «إفريقيا التي لفظها البحر» بسبب قربها الشديد من القارة، التي لا تبعُد سوى 9 أميال بحرية.
جغرافياً، لم يشعر المرء يوماً بأنّ بطولة كأس أمم إفريقيا أقرب إلى بقية العالم كما هو الحال الآن، ليس منذ عام 1988 عندما استضاف المغرب آخر نسخة. يومذاك، تأهلت 8 منتخبات فقط، ولُعبت جميع المباريات في الدار البيضاء والرباط. هذه المرّة، تتنافس 24 دولة، وتشارك 6 مدن.
إحدى هذه المدن هي طنجة المغربية التي كانت تتمتع بنظرة عالمية. فمن الشوارع الواسعة التي تنحدر نحو المتوسط انطلاقاً من شارع باستور، تبدو أوروبا حاضرة هناك تماماً. ومع ذلك، كانت تُعرف يوماً باسم «المنطقة الدولية»، وهو توصيف أطلقه ويليام بوروز، أحد العديد من الكتّاب الذين اتخذوا من طنجة مقراً لهم بين عامَي 1923 و1956، حين كانت خاضعة لإدارة قوى غربية وأصبحت مغناطيساً للفنانين والجواسيس.
في طنجة، اكتشف حياً محلياً وصفه بأنّه «متاهة من الأزقة الملتوية المظلمة والممرات المسدودة». ثمة دائماً إحساس بأنّ شيئاً ما يحدث خلف النوافذ المغلقة، أو أنّ أمراً ما سيحدث، وإن لم يتضح تماماً ما هو إلى أن يصبح أمامك مباشرة. في هذه المناسبة، لا شك أنّ ذلك الشيء هو كأس أمم إفريقيا، الاستعراض الذي وصفه عنه فيرون موسينغو-أومبا، الأمين العام للاتحاد الإفريقي لكرة القدم (كاف)، بأنّه سيكون «أفضل نسخة على الإطلاق بفضل جاذبيّته العالمية والبنية التحتية من الطراز العالمي» في المغرب.
كاف: «رقم قياسي»
أعلن كاف عن «رقم قياسي» يتمثل في 20 شراكة لحقوق الإعلام الخاصة بالبطولة عبر أكثر من 30 إقليماً أوروبياً. وجاء ذلك بعد اتفاق «مفصلي» هذا الشهر مع قناة «تشانل 4»، ما يعني أنّ جميع مباريات البطولة الـ52 ستُعرَض على التلفزيون المجاني في المملكة المتحدة للمرّة الأولى.
لم تكن القناة البريطانية الشركة الوحيدة في البلاد التي تنافست على هذا الاتفاق. وفي بيانه الصحافي، أشار «كاف» إلى الجاليات المغربية في الخارج، موضحاً بعض الإهتمام الأوسع، ولا سيما في إسبانيا. وإذا كان هذا صحيحاً، فإنّ الدول المتأهّلة التي تتمتع بكثافة سكانية كبيرة وجاليات مؤثرة في الخارج، مثل نيجيريا ومصر والكونغو الديمقراطية، تكون قد ساهمت أيضاً.
كما ينبع الاهتمام المحيط بكأس إفريقيا من مشاركة لاعبين رفيعي المستوى من أكثر الدوريات الأوروبية شعبية، من بينهم محمد صلاح، الذي وضع نفسه أخيراً في دائرة الضوء بتصريحاته أكثر من أدائه، في حال لم تكن قد لاحظت.
وإذا عُرّفت هذه الدوريات بإنكلترا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا، فإنّ 124 لاعباً من 62 نادياً سيكونون متاحين لمنتخباتهم. وقبل يومَين من حفل الافتتاح في الرباط، كان هناك ما مجموعه 45 لاعباً من الـ»بريميرليغ» يمثلون 14 نادياً. وبالترتيب التنازلي، يوجد 25 لاعباً من 15 فريقاً في «ليغذ»، و21 من 12 نادياً إيطالياً، و17 من 10 أندية ألمانيا، و16 من 11 نادياً إسبانياً.
هذا يُثير نظرات جانبية من أوروبا، ممزوجة في البداية بشيء من الاستياء تبعاً لمصير الأندية التي أُضعفت. غير أنّ «تشانل 4» استمدّت الثقة من الأرقام في ختام النسخة السابقة من كأس إفريقيا في شباط 2024، مشيرةً إلى أنّ المشاهدين واصلوا التفاعل مع البطولة لأنّهم كانوا يستمتعون بها.
يومها في ساحل العاج، عندما أُهين المنتخب المضيف بخسارة 4-0 أمام غينيا الاستوائية في مباراته الثالثة والأخيرة في دور المجموعات، كان على شفا الإقصاء ويحتاج إلى خدمات من منتخبات أخرى للتأهل. فأقال مدربه الفرنسي جان-لوي غاسيه من دون أن يعرف مصيره. ومع ذلك، انتهى به الأمر إلى الفوز بالبطولة بأكملها.
تبلغ كرة القدم ذروتها عندما تكون دراما خالصة غير مكتوبة. وبما أنّ التنبّؤ بالفائز في البطولات الأوروبية بات أسهل، فإنّ كأس إفريقيا توفّر إحساساً بالمجهول، لأنّ المرشحين نادراً ما يُلبّون التوقعات عندما تحين اللحظة الحاسمة. هذه البطولة لم تُفسدها الاحتكارات.
المنتخبات الإفريقية: أفضل على الساحة العالمية
لم تفز أي دولة إفريقية بكأس العالم، لذا تكتسب كأس إفريقيا أهمّية إضافية بوصفها بطولة يبدو فيها النجاح الملموس واقعياً. ومع ذلك، فإنّ اقتراب كأس العالم يُضيف بُعداً إضافياً إلى هذه النسخة. فالتاريخ يُظهر أنّ المنتخبات الإفريقية تميل إلى تقديم أداء أفضل على الساحة العالمية مباشرةً بعد نتائج مشجّعة على مستوى القارة.
في عام 2002، حلّت السنغال وصيفة قارياً للمرّة الأولى، قبل أن تُعادل إنجاز الكاميرون عام 1990 بالوصول إلى ربع نهائي كأس العالم. وبعد 8 سنوات، كرّرت غانا الأمر. وفي عام 2022، أصبح المغرب أول منتخب إفريقي يبلغ نصف نهائي المونديال، بعدما وصل إلى ربع نهائي كأس إفريقيا قبل أشهر، غير أنّ تلك التجربة وفّرت احتكاكاً حيَوياً لبعض اللاعبين الذين برزوا لاحقاً كعناصر أساسية.
ومع مشاركة عدد أكبر من الدول الإفريقية في مونديال 2026 أكثر من أي وقت مضى، ينبغي أن تمنح كأس إفريقيا لمحة عن المستقبل القريب لقارة تملك تاريخاً كروياً أعمق من بعض القارات التي سبقتها في مجالات أخرى.
أُقيمت كأس إفريقيا للمرّة الأولى عام 1957، أي بعد عام ونصف فقط من انطلاق كأس أوروبا/دوري أبطال أوروبا، وهي أقدم بأكثر من 3 سنوات من بطولة أمم أوروبا، ومع ذلك كثيراً ما نُظر إليها خارج إفريقيا على أنّها مصدر إرباك بسبب تعارضها أحياناً مع جداول مسابقات تملك موارد مالية أكبر.
ويساعد ذلك أيضاً في تفسير سبب تصوير كأس إفريقيا بسهولة على أنّها مصدر إزعاج لأي شخص غير مستثمر فيها بالفطرة. لكنّها هنا الآن. وإذا وضعتها جانباً، فأنت تفوّت الكثير.