رحل أوّل أمس القاضي خالد صفا زودة، الرئيس شرفاً لمحكمة التمييز اللبنانية، بعد مسيرة قضائية ناصعة جعلت من صاحبها قمّة في الإنتاجية والعطاء وقامةً استثنائية في المناقبية والنصاعة والبهاء.
رحل خالد زودة... رحل الكبير عشير الكبار... رحل منسحباً من الزمن، ليُقيم في المعنى كحال سائر العظماء الذين لا يُقاس رحيلهم بوجع الغياب، بل بما خلّفوه من أثرٍ وثقلٍ علمي وأخلاقي.
دخل خالد زودة القضاء من باب المحاماة، لا طمعاً بالإنتقال من مهنةٍ إلى سلطة، بل تلبيةً لدعوةٍ، وعبوراً من موقع الدفاع عن الحقّ إلى مسؤولية إقراره. ومارس القضاء كالتزامٍ أخلاقيٍّ قبل أن يكون حُكْماً أو إجراءً، مستلهماً بذلك منهج ومناقبية رفاقه المقرّبين: الرئيسَين المغفور لهما طارق زيادة وسعيد عدره، والرئيس محمد عويضة أطال الله بعمره.
صنيعةُ طرابلس هو، المدينة الدرّةُ التي زرعت في نفوس أبنائها العلم مجبولاً بالقيم مطهّراً من الرجس، والهيبة المزدانةِ بالحنوّ منزّهةً عن الإستعلاء. وحمل إرث بَيته العريق لا كامتيازٍ اجتماعي، بل كواجبٍ مضاعف. فكان له من اسم والده: صفو النيّة والمقصد والنتاج والسيرة، ومن اسمه: خلود الأثر الذي سيبقى منارةً يُستهدى بها مناقبيةً وإجتهاداً، ومن اسم عائلته زودةً في فيض العدل لا تتعكّر ولا تنحسر أو تنضب.
يرحل الرئيس الحبيب الملهم المؤنس... يرحل بانطفاء الجسد وعروج الروح، لكنّه سيبقى الرمز والحجّة الذي شرّفنا بأن عايشناه وتتلمذنا على يدَيه، وصادقناه وشهدنا معه وله بأنّه مارس العدالة على أحسن وجه... عدالة خالد زودة كانت مفعمةً بتوازنٍ نفسي وشجاعةٍ علمية محصّنةٍ بحكمةٍ وعلمٍ وفير ونظافة كف ونصاعة ضمير... وهذا ما جعله المثال الحيّ الناطق بأنّ العدالة المسكون صاحبها بمثل ذلك كلّه تصبح نعمةً تُطمئن لا حُكْماً يُخيف.
الرحمة لروحك يا أيها الراحل الكبير، والعزاء لرفيقة دربك السيّدة الفاضلة رنا ولسائر أفراد عائلتك الكريمة ولطرابلس الحبيبة، وللقضاء... وللوطن الذي خسر بخسارتك واحداً من أنبل حرّاس معناه.