قدّم أمين معلوف في مؤلَّفه «غرق الحضارات» تحليلاً معمَّقاً للمخاطر الجسيمة التي تواجه الحضارات في عالمنا المعاصر، مستنداً إلى التحوُّلات الكبرى في التاريخ الحديث واختلال موازين القوى العالمية منذ عقود. ويربط معلوف هذه التحوُّلات اليوم بخطرٍ شامل يهدِّد مستقبل البشرية برمّتها.
مسار البشرية والانحرافات المتكرّرة في تاريخها
يروي الكتاب أحداثاً مفصلية مثل سقوط سايغون، والتحوّلات السياسية في طهران، وما نتج منها من انعكاسات إنسانية واجتماعية عميقة، قبل أن ينتقل إلى تحليلات أشمل لمسار البشرية والانحرافات المتكرّرة في تاريخها. ويناقش اندثار التعدُّدية الثقافية في المشرق العربي، والهزّات الاجتماعية والسياسية في مختلف القارات، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية التي تُهدِّد استقرار المجتمعات.
يعرض معلوف مزيجاً من الوقائع التاريخية والفرضيات المستقبلية، معتمداً منظوراً شمولياً يربط بين العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ليقدّم رؤية مفادها أنّ «الغرق الحضاري» ليس نتيجة حادثٍ عابر، بل ثمرة تراكم طويل من الاختلالات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي تُهدِّد استمرارية العيش المشترك.
ويدعو معلوف إلى صحوة عقلية وأخلاقية شاملة، مؤكّداً أنّ العالم لا يمكن أن يستمر في مسار الهلاك من دون وعيٍ جماعي وتحرُّكٍ حاسم من شعوب الأرض كافة. ويُشدِّد على أنّ إدراك المخاطر والتفكير النقدي يُشكّلان السبيل الوحيد للحفاظ على التعدّدية الثقافية والقِيَم الإنسانية الأساسية. هذا الوعي بالضرورات، كما يقدّمه معلوف وكما يطرحه كثير من الفلاسفة والمفكّرين، يجعل من الكتاب قراءةً ضرورية لكل مَن يسعى إلى فهم جذور أزمات عصرنا، طبيعة الصراعات الراهنة، وتداعياتها على مستقبل البشرية.
النظام الدولي الجديد: السلام، الديمقراطية، والأسواق الحرّة
بعد سلسلة الحروب العالمية في القرن الـ20 وبدايات القرن الـ21، أصبح العالم محكوماً بثلاثة محاور أساسية، أو 3 أفكار كبرى، ترسم ملامح النظام الدولي الجديد: السلام، الديمقراطية، والأسواق الحرّة.
فبحسب مايكل ماندلباوم في كتابه «الأفكار التي غيّرت العالم»، لم تعُد هذه المبادئ مجرّد خيارات سياسية، بل تحوّلت إلى الإطار الناظم للنظام الدولي الحديث، وإلى قوّة فكرية حلّت محلّ صراعات الإمبراطوريات والأيديولوجيات الكبرى التي طبعت القرنَين الـ19 والـ20.
يشرح ماندلباوم أنّ هذه الأفكار تبلورت مع نهاية الصراعات الكبرى، وصعود مفهوم السلام بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي أنهى نموذج «الحرب كأداة طبيعية للسياسة». فباتت القوّة العسكرية آخر أدوات التأثير، في حين تصدّر التكامل الاقتصادي والديبلوماسية المؤسسية المشهد الدولي. السلام هنا لا يعني غياب الحرب فحسب، بل منظومة قِيَم تقوم على احترام الحدود، حلّ النزاعات عبر التفاوض، وتراجع الحروب بين الدول الكبرى.
الديمقراطية أفضل صيغة للحُكم
في السياق عينه، يرى ماندلباوم أنّ الديمقراطية أصبحت أفضل صيغة للحُكم في العصر الحديث، في ما عُرف بـ«التفوّق التاريخي للديمقراطية الليبرالية» التي انتشرت بعد عام 1989 مع موجة التحوّل الديمقراطي في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية. فالديمقراطية، وفق هذا المنطق، ليست نظاماً سياسياً فقط، بل بنية اجتماعية قائمة على المشاركة والشفافية وسيادة القانون. وعلى رغم من التحدّيات التي تفرضها الأنظمة الهجينة والاستبدادية، لا تزال القِيَم الديمقراطية، برأيه، معيار الشرعية السياسية في النظام العالمي.
أمّا المحور الثالث، فهو الاقتصاد الحُر والعولمة، إذ يشكّل اقتصاد السوق العمود الفقري للنظام الدولي الجديد. فالأسواق المفتوحة، تدفّقات التجارة، وثورة الاتصالات، خلقت ما يشبه «شبكة أمان عالمية» تُقلّل من احتمالات الانزلاق نحو الحروب المكلفة. والعولمة، في هذا الإطار، ليست مجرّد توسّع للرأسمالية، بل إعادة تشكيل للعلاقات الدولية، إذ تتداخل المصالح الاقتصادية بين الدول على نحو يتجاوز الحدود التقليدية.
ويؤكّد ماندلباوم أنّ الولايات المتحدة، بوصفها الحامل الرئيسي لهذه الأفكار الثلاث، أصبحت «القوّة الضامنة» لها بعد الحروب الكبرى، من خلال أدوارها العسكرية والسياسية والاقتصادية. غير أنّه يُشدِّد على أنّ هذه القِيَم لا ينبغي فرضها بالقوّة، بل عبر جاذبية النموذج الليبرالي نفسه. ومع ذلك، يحذّر من أنّ الضغط الأميركي وحده لا يكفي، إذ يعتمد انتشار هذه الأفكار على البيئات المحلية للدول، وعلى مدى استعدادها للتحوّل الديمقراطي أو الانخراط في الاقتصاد العالمي.
ويُشير إلى حدود المشروع الليبرالي في العالم الإسلامي وروسيا والصين، حيث يواجه مقاومة متفاوتة، غالباً ما تكون شديدة. ففي بعض دول العالم الإسلامي، تشكّل الهويات الدينية والسياسية عائقاً أمام الانتقال الديمقراطي. أمّا روسيا، فلا تزال تتأرجح بين منطق القوّة الإمبراطورية ومتطلّبات الديمقراطية. في حين تبنّت الصين اقتصاد السوق من دون تبنّي النظام الديمقراطي، ما أفرز نموذجاً هجيناً يختبر حدود أطروحة ماندلباوم.
ويطرح الكتاب سؤالاً محوَرياً حول المستقبل: صدام أم اندماج؟ فنجاح الأفكار الثلاث ليس مضموناً في كل الظروف، في ظل التوترات الثقافية، اتساع الفجوات الإقتصادية، وصعود القومية الشعبوية، وهي عوامل قد تُعيد إنتاج صراعات قديمة بأشكال جديدة. ومع ذلك، يراهن المؤلّف على أنّ السلام والديمقراطية والسوق الحرة تظلّ أفضل الأدوات المتاحة لتنظيم النظام العالمي، لأنّها تسهم في تحقيق الاستقرار وتلبية الحاجات الأساسية للبشر، وإلّا فإنّ البديل سيكون الانزلاق الجماعي نحو الهاوية.
تفاؤل مفرط.. وسط الحروب
في المقابل، وُجّهت إلى الكتاب انتقادات تتعلّق بتمركزه الأميركي ومَيله إلى التفاؤل المفرط، لا سيّما في ظل صعود الصين، عودة التنافس الجيوسياسي، واندلاع حروب أعادت الاعتبار للقوّة العسكرية، من العراق إلى أوكرانيا، مروراً بغزّة والسودان ولبنان، على سبيل المثال لا الحصر.
تكمن أهمية الكتاب في إظهاره كيف يمكن للأفكار، لا للجيوش وحدها، أنّ تُعيد تشكيل نظام دولي يطمح إلى تقليص العنف وتحسين حياة البشر، عبر ترسيخ دولة القانون، تعزيز المؤسسات التمثيلية، تكريس الترابط الاقتصادي العالمي، وتقييد استخدام القوّة والحروب.