ليس هذا السؤال اتهاماً للضحية، ولا محاولة لتبرير الأذى الواقع عليها، بل محاولة لفهم سلوك يبدو للوهلة الأولى غير قابل للفهم. لماذا تدافع الضحية أحياناً عمّن يؤذيها؟ ولماذا تتماهى مع مَن يُمارس القسوة عليها، بدل أن تنفصل عنه، حتى حين تُدرك حجم الضرر؟
هذا السلوك الذي يتكرّر في العلاقات العاطفية المؤذية، وفي العنف الأسَري، وفي بعض البيئات الاجتماعية والمهنية، لا ينشأ من ضعف في الشخصية أو نقص في الوعي، بل من بُنية نفسية تشكّلت تحت الضغط، واستمرّت بفعل الخوف والاعتياد والتهديد أحياناً.
تُشير دراسات علم النفس العيادي، إلى أنّ الإنسان، في ظروف الخطر المزمن، لا يتصرَّف دائماً وفق ما هو منطقي أو صحّي، بل وفق ما يضمَن له الاستمرار بأقل خسائر ممكنة. وفي هذا الإطار، لا يكون السلوك دفاعاً عن الجلاد بقدر ما يكون دفاعاً عن التوازن النفسي الهش للضحية نفسها.
الجلاد بوصفه الامتداد الطبيعي للماضي
الإنسان لا يدخل علاقاته من فراغ. هو يحمل معه ذاكرة شعورية تعلّم فيها باكراً معنى القرب، الاهتمام، والقبول. وحين يكون هذا التعلّم مَشوباً بالقسوة، الإهمال، أو التناقض، يتحوّل الألم إلى لغة مألوفة.
أشار طبيب الأعصاب النمسوي سيغموند فرويد إلى أنّ التجارب الأولى لا تختفي، بل تُعاد تمثيلها لاحقاً بطرق مختلفة، فيما سمّاه «إعادة القهر»، أي مَيل النفس إلى تكرار ما جُرحت به، لا حُبّاً بالألم، بل سعياً لا واعياً للسيطرة عليه. فما لم يُفهَم في الماضي، يعود في الحاضر على شكل علاقة، نمط أو صراع متكرِّر. ومن هنا، قد تنجذِب الضحية إلى علاقة تحمِل ملامح الأذى عينه الذي عرفته سابقاً، لأنّ هذا الأذى، على رغم من قسوَته، يبدو مألوفاً ويمكن التنبّؤ به.
في هذا السياق، لا يُنظر إلى الجلاد بوصفه غريباً، بل بوصفه امتداداً لتجربة قديمة لم تُحل، ولم يُسمح لها بالانتهاء. وما هو مألوف مهما كان موجعاً يبدو أحياناً أكثر أماناً من واقع جديد لا نملك مفاتيحه.
التحالف كآلية بقاء نفسية
التحالف مع الجلاد لا يكون دائماً خياراً واعياً، بل آلية بقاء. فالاعتراض المستمر، المقاومة، أو المواجهة، قد تبدو في نظر الضحية أكثر خطورة من التكيُّف، خصوصاً حين يقترن الأذى بتهديد مباشر أو ضمني: تهديد بالفقد، بالنبذ، بالفضيحة، بالأذى الجسدي، أو بحرمان اقتصادي واجتماعي. في هذه الحالات، تتحوّل الطاعة إلى حماية، الصمت إلى وسيلة لتقليل الخسائر، والتبرير إلى درع نفسي يخفّف وطأة الصراع الداخلي.
توضّح الطبيبة النفسية جوديث هيرمان، المتخصِّصة في علاج الصدمات، أنّ الضحية في حالات العنف المزمن قد تطوّر ما يُعرف بـ «روابط الصدمة»، إذ يُصبح التعلّق بالمعتدي جزءاً من استراتيجية النجاة حين يكون الهروب غير ممكن أو محفوفاً بالمخاطر.
علم النفس الصدمي يَصِف هذا النمط بوصفه استجابة تكيفية، إذ تختار النفس ما يضمَن البقاء الآني، حتى وإن كان ذلك على حساب السلامة النفسية بعيدة المدى. ليس لأنّ الضحية لا ترى الأذى، بل لأنّها تحاول النجاة ضمن شروط قاسية.
الخوف من الانهيار لا من الألم
في كثير من الحالات لا يكون الخوف الحقيقي من استمرار الأذى، بل من لحظة الاعتراف الكامل به. فالاعتراف يعني انهيار الصورة التي بُنِيَت حول العلاقة، ويعني مواجهة أسئلة وجودية مؤلمة: لماذا بقيتُ كل هذا الوقت؟
لماذا قبلتُ بما لا يُقبَل؟ ومَن أكون خارج هذا الدور الذي عِشتُ داخله؟
يرى عالم النفس البريطاني جون بولبي، مؤسس نظرية التعلّق، أنّ الخَوف من الانفصال قد يكون أشدّ إيلاماً من الألم نفسه، خصوصاً لدى مَن تعلّموا باكراً أنّ الأمان مرتبِط بالآخر، حتى وإن كان مؤذِياً.
لهذا، قد يبدو الاستمرار أقل كلفة نفسياً من المواجهة، حتى وإن كان أشدّ إيلاماً على المدى الطويل. الألم المستمر قد يُحتمل، أمّا انهيار المعنى، فيُرعِب.
الذنب: الرابط الأكثر إحكاماً
الذنب عنصر مركزي في هذا التحالف، ولا ينبع من خطأ حقيقي، بل من شعور متراكم بالمسؤولية عن مشاعر الآخر وسلوكه وانفعالاته. تتعلّم الضحية مع الوقت، أن تُفسِّر العنف بوصفه نتيجة تقصيرها، القسوة بوصفها ردّ فعل، والإهانة بوصفِها سوء فهم أو لحظة غضب.
هذا النوع من الذنب يُعدّ، في علم النفس، نتيجة مباشرة لعلاقات غير متكافئة، إذ يُنقَل العبء الأخلاقي من المعتدي إلى الضحية، فتتحوّل محاولة النجاة إلى شعور دائم بالذنب.
هذا النمط يتقاطع مع ما وصفته دراسات التعلّق العاطفي، إذ يَميل أصحاب التعلّق القَلِق إلى تحمّل الأذى خوفاً من الفقد، وإلى تحميل أنفسهم مسؤولية العلاقة كاملة. وهكذا يصبح الانفصال فعلاً يبدو أخلاقياً خاطئاً، لا خطوة نحو النجاة.
حين يُعاد تعريف الواقع
مع مرور الوقت، قد تعيد الضحية تعريف القسوة بوصفها «طبعاً»، السيطرة بوصفها «غيرة»، والإهانة بوصفها «صراحة». هذا التشويه المعرفي لا يحدث فجأة، بل يتكوّن تدريجاً، إذ تتآكل المعايير النفسية من دون أن يشعر الفرد بذلك. وهذا التشويه التدريجي للواقع لا يحدث دفعة واحدة، بل عبر تراكمات صغيرة، تجعل الخط الفاصل بين الطبيعي والمؤذي ضبابياً. وحين يختلط الألم بالاعتياد، يفقد العقل قدرته على القياس السليم.
الفهم بوصفه بداية التفكيك
فهم هذا النمط لا يهدف إلى تطبيعه أو تبريره، بل إلى تفكيكه. فالتحرّر لا يبدأ باللوم، لا بالشعارات، ولا بالأحكام القاطعة، بل بالوعي بأنّ العلاقة التي تتطلّب محو الذات ليست حباً، وأنّ الألم المتكرّر ليس دليلاً على العمق، وأنّ الهدوء ليس فراغاً، بل مساحة آمنة للنمو.
الخروج من هذا التحالف عملية بطيئة، تحتاج إلى وقت، دعم نفسي أحياناً، وشجاعة إعادة تعريف الذات خارج الألم، الخوف، والدور الذي فُرِضَ عليها طويلاً. فالضحية لا تتحالف مع جلادها لأنّها لا تُريد الخلاص، بل لأنّها لم تُمنَح في وقتٍ ما، فرصة أن تتعلَّم كيف تعيش من دونه.