ما الذي يدفعنا إلى التعلّق بمَن يؤذينا؟
ما الذي يدفعنا إلى التعلّق بمَن يؤذينا؟
آية يوسف المسلماني
Saturday, 13-Dec-2025 06:57

لا تزال مسألة الإنجذاب إلى الأشخاص المؤذين واحدة من أكثر الأسئلة حضوراً في التجارب العاطفية المعاصرة. مرّات كثيرة نلتقي أشخاصاً ندرك منذ اللحظة الأولى أنّهم لن يمنحونا الطمأنينة، ومع ذلك نتقدّم نحوهم كما لو أنّ قوّة خفيّة تشدّنا إليهم. هنا يتكرّر السؤال: لماذا نختار ما نعرف أنّه سيؤلمنا؟ ولماذا يبدو بعض الألم مألوفاً إلى حدّ يجعلنا نراه جذاباً؟

ذاكرة الطفولة... البوصلة الخفيّة
تتفق دراسات علم النفس على أنّ الإنسان حين يدخل علاقة جديدة لا يبدأ من فراغ. فهو يحمل معه ذاكرة شعورية تشكّلت منذ سنواته الأولى، حين بُنيَ مفهومه الأول عن الحُب والقُرب والاهتمام. هذه الذاكرة سواء كانت دافئة أو موجِعة، تُصبح المرجع الأعمق الذي نقيس من خلاله أي علاقة لاحقة.
فالطفل الذي نشأ على التهميش، القسوة أو الغياب قد يسجّل عقله الباطن تلك التجارب باعتبارها طبيعية، لا لأنّها سليمة، بل لأنّها كانت أول ما عرفه. وحين يلتقي لاحقاً بشخص يوقظ إحساساً مشابهاً، حتى لو كان قاسياً، يستيقظ داخله صوت غير واعٍ يقول: «هذا الشعور أعرفه... وهذا ما يُشبه الحُب».
وهكذا لا يكون الإنجذاب مرتبطاً بتميّز الشخص، بل بقدرة ذاكرة قديمة على استعادة حضورها.


المشكلة ليست في القلب... بل في التاريخ
خطورة هذا النمط من الإنجذاب أنّه يجعل الماضي يُمسِك بزمام الحاضر. فالتجربة الأولى إن كانت مؤذية قد تُعاد صياغتها في كل علاقة جديدة، وكأنّ الإنسان يُعيد إنتاج جرحه بطرق مختلفة. وعلى رغم من الوعي بالأذى، فإنّ تكرار المشهد يُصبح مألوفاً، والمألوف يبدو للأسف مريحاً.
ومن هنا ينبثق السؤال الأصعب: هل الحل هو اللجوء إلى علاقات صحية لكن بلا شغف؟ هل يكفي أن نرتبط بأشخاص متوازنين وهادئين، حتى وإن لم يُحرّك حضورهم في داخلنا شرارة واضحة؟


إعادة تعريف الحُب... لا التخلّي عنه
ما تقترحه دراسات التعلّق العاطفي أكثر تفاؤلاً. فالقضية ليست في رفض الحب أو الدخول في علاقات بلا روح، بل في إعادة بناء الفكرة التي نحملها عنه.
الخطوة الأولى هي الوعي. فَهِم نمط التعلّق الذي نحمله، والانتباه إلى الأشخاص الذين يلفتوننا فوراً، وما الذي يمثلونه بالنسبة إلى ذاكرة الطفولة. أمّا الخطوة الثانية، فهي إعادة تعريف الحب كمساحة استقرار وطمأنينة، لا كحالة فوضى وتوتر.
فما نُسمّيه أحياناً شغفاً، قد يكون في الواقع استجابة لجراح قديمة، لا علاقة حقيقية بالشخص الذي أمامنا.
ومع الوقت، يتعلّم الإنسان أنّ الود، الاحترام، الوضوح، والطمأنينة ليست سمات باهتة، بل عناصر قادرة على بناء علاقة قوية تنبض بالمعنى، لا بالاضطراب.


رحلة تحتاج إلى وقت... وأحياناً إلى رفيق مختص
تغيير هذا النمط ليس سهلاً ولا سريعاً. هو رحلة تشبه ترميم بيتٍ قديم، وإعادة ترتيب أركانه حجراً بعد حجر. ولهذا، قد يحتاج البعض إلى مساعدة مختص نفسي يرافقهم في قراءة أنماطهم بوضوح، ويُقدّم لهم أدوات عملية وآمنة للتغيير.
ليس المطلوب أن نهرب من الحُب، ولا أن نقبل بعلاقات باردة تخلو من الحياة. المطلوب هو أن نتعلّم اختيار الحب الذي يوسّعنا، لا الحُب الذي يُعيدنا إلى جراحٍ لم نعُد نحتملها. فالحياة لا تكافئ مَن يُكرّر آلامه، بل مَن يجرؤ على تجاوزها نحو ما يستحق قلبه حقاً.

theme::common.loader_icon