في منتصف الطريق بين الاجتماع الأول للجنة «الميكانيزم» بعد تطعيمها بالتمثيل الديبلوماسي والثاني المقرّر في 19 الجاري، فجّر السفير الأميركي الجديد في لبنان ميشال عيسى قنبلة من العيار الثقيل من عين التينة. فمن منبرها وليس من أي مكان آخر، كشف عيسى «أنّ المفاوضات بدأت، وهذا لا يعني أنّ إسرائيل ستتوقف، فهم يعتقدون أنّ الأمرين منفصلان وبعيدان عن بعضهما البعض». وهو ما أعطى توصيفاً وبعداً جديدين للمفاوضات الجارية في الناقورة، في انتظار معرفة النتائج التي ستقود إليها.
بمعزل عن المناسبة التي شهدت اعترافاً اميركياً رسمياً بأنّ إسرائيل تفصل بين مجرى المفاوضات الجارية في إطار «الميكانيزم» واستمرارها باعتداءاتها على لبنان، من دون أي إشارة إلى موقف بلاده من هذه النظرية التي لم تخطر على بال أحد، من قبل أن تصدر عن سفير أميركي جديد تسلّم مهامه حديثاً في لبنان بطريقة استثنائية لا سابق لها، وخصوصاً عند تخلّيه عن هويته اللبنانية، وهو ما أطال فترة انتظاره لتسلّم مهامه شهوراً عدة.
وانطلاقاً من هذه الملاحظة التي لا يختلف حولها أي من المراقبين إلى أي فئة انتموا، فالسفير الأميركي اللبناني الأصل المعتمد في لبنان، يتقن اللغة العربية بطلاقة مميزة. وهو ما منع مجرد التفكير او الشك للحظة، انّه في مثل هذه العبارات الواضحة على قلّتها يمكن ان تكون «زلّة لسان». فهو كان واضحاً في تعبيره عن هذه المعادلة المنطقية الجديدة، التي يمكن فهمها من قبل جانب كبير من اللبنانيين والديبلوماسيين المعتمدين في لبنان على أكثر من خلفية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- واضح جداً انّ الحرب التي خاضها «حزب الله» منفرداً «على الطريق إلى القدس»، كانت تجربة خالصة وخاصة به، لم يشاركه أحد في المسؤوليات التي أُلقيت على كاهله تباعاً، إلى أن انتهت إلى ما انتهت إليه من اغتيالات طالت عشرات قيادييه يتقدّمهم الشهيدان حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، كما ألقت بظلالها السود على البلاد وعلى جميع اللبنانيين بلا استثناء.
- لم يستشر «حزب الله» عند دخوله حرب «الإلهاء والإسناد» أياً من القيادات اللبنانية والمؤسسات والسلطات الشرعية كما حلفائه، وإن كان خلو سدّة الرئاسة قبل عام تقريباً على انطلاقها، قد سمح له بالقيام بما قام به بحرّية مطلقة، فإنّ تجاهله لحكومة تصريف الأعمال بعد المجلس النيابي، كما قيادة الجيش والمؤسسات الأمنية الأخرى، وضعه في موقع المفاوض الوحيد في كل المراحل التي قطعتها المعالجات الجارية لفترة طويلة، قبل أن يظهر تفويضه لـ «الأخ الأكبر» رئيس مجلس النواب نبيه بري، لقيادة المرحلة الأخيرة من المفاوضات، قبل الطلب إلى حكومة تصريف الأعمال تبنّي الاتفاق الذي تمّ التوصل اليه في 27 تشرين الثاني 2024.
- لم يكن لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، الذي يدير المفاوضات الجارية اليوم من باب صلاحياته الدستورية، أي دور في تلك الحرب، سوى ما كان عليه كقائد للجيش أن يقوم به من باب المسؤولية الملقاة على عاتقه، في وقت كان يكافح فيه من أجل ضمان وحدة المؤسسة العسكرية وضمان تماسكها وتوفير الحدّ الأدنى من غذائها، مستدرجاً أصدقاء لبنان للمساعدة في تلك المرحلة الصعبة التي منعت أن يكون مصيره شبيهاً بباقي المؤسسات الإدارية والخدماتية والقضائية التي شُلّت وفقدت خدماتها بالحدّ الأدنى المطلوب منها، حتى بلغت مرحلة فَقَد اللبنانيون فيها حبة الدواء او ساعة إنارة او تأمين صفيحة محروقات إلى ما هنالك من الخدمات المفقودة.
- لم تكن لرئيس الحكومة نواف سلام أي صفة رسمية، حتى أنّه لم يكن مقيماً في لبنان عند اندلاع الحرب، وهو كان معتلياً قوس محكمة العدل الدولية للنظر في دعوى جنوب إفريقيا في محاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكابه جرائم ضدّ الإنسانية في قطاع غزة ومحيطه، إلى أن حرمه من زيارة عشرات الدول وحتى عبور أجوائها بعد صدور الحكم بحقه.
وإلى هذه الملاحظات، وما يمكن ان تتضمن من تفاصيل إضافية، او تلك التي يمكن ان تنمو على هامشها، يبدو منطقياً بالنسبة إلى بعض الدول والولايات المتحدة الأميركية منها ومعها دول أخرى عربية وغربية، أن تعتقد وتقول إنّ الحرب الإسرائيلية ضدّ «حزب الله» مستمرة، وانّ الحكومة الحالية التي تخوض المفاوضات قد ورثت نتائج الهزيمة التي قادت إليها الحرب، التي أطلقتها قوى أخرى لا علاقة لها بها، بدليل انّها تحاشت حتى اليوم المسّ بمقومات الدولة ومرافقها الحيوية على الإطلاق. وهي نظرية طالما حكمت النظرة الدولية تجاه لبنان على مدى العقود الأخيرة. فهي فصلت بين السلطة، الشرعية و»حزب الله»، عندما فرضت العقوبات على قياداته ومؤسساته، قبل أن تهدّد تل أبيب ومعها بعض العواصم الغربية والعربية بإنهاء حالة الفصل هذه بين الحالتين، ما لم تتخذ الحكومة الإجراءات الكفيلة بنزع سلاح الحزب وحل الجناح العسكري وتحوله إلى العمل السياسي.
ووفق مراجع ديبلوماسية وعسكرية تؤيّد هذه النظرة والقراءة المرتبطة بالعلاقة بين دولة وما تسمّيه ميليشيا نمت في داخلها، فإنّها تشير إلى مضمون المداولات الجارية في جلسات المفاوضات التي تواكب مبادرات عدة، نمت وما زالت مستمرة من كل حدب وصوب، على هامش أعمال لجنة «الميكانيزم»، بمعزل عن فشلها كما يعتقد البعض، فيما يراها آخرون أنّها «تجنبت» استخدام كامل صلاحيات وقدرات رعاتها الأميركيين والفرنسيين - كما يريدها الجانب اللبناني - ما لديها من قوة للجم العدوانية الإسرائيلية بالشكل الذي تتخذه، بعد مرور أكثر من عام بأيام قليلة على التفاهم الذي قال «بتجميد العمليات العدائية» ولم يرق إلى وقف ثابت ونهائي للنار.
وختاماً، تنتهي المراجع عينها إلى القول، انّ على اللبنانيين فهم المعادلة الجديدة التي رسمها عيسى، على أن تُؤخذ بجميع عناصرها وما يمكن ان تؤشر اليه بالجدّية الكافية، لأنّه سيكون على المفاوض اللبناني التحضير جيداً لمفاوضات صعبة، طالما انّ قرار حصر السلاح المطلوب بإلحاح بمعزل عن سير المفاوضات، مطلب يتعدّى الدول الراعية للتفاهم الأخير، ليرقى إلى مستوى المطلب الدولي. وفي حال العكس، فإنّه من الأفضل أن تبقى ملاحظات اللبنانيين ملكاً لهم، إلى أن يأتي الوقت الذي سيضطرون فيه إلى القيام بما تجنّبوه حتى اليوم، أو ترك المهمّة لمن يستطيع القيام بها أياً كانت التكلفة المقدّرة. ونقطة عالسطر.