ماذا ننتظر من دون صُراخ، صَوت وهمسة في أخطر مراحلنا الوجودية؟
ماذا ننتظر من دون صُراخ، صَوت وهمسة في أخطر مراحلنا الوجودية؟
محمود القيسي
Tuesday, 09-Dec-2025 07:21

يُسلَّط الضوء في أيامنا هذه على أثر وفرة المعلومات في تشكيل وعيَنا... يقول مارتن هايدجر: «العِلم لا يُفكِّر... ولا يستطيع التفكير». مارتن هايدغر فيلسُوف الظاهريات، لم يكن يزدري العِلم أو يُقلّل من شأن إنجازاته، بل كان يُحدّد حدوده المعرفية. العِلم بالنسبة إليه يبرع في الإجابة عن أسئلة ماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ لكنّه يعجز عن أسئلة لماذا؟ وما الماهية؟ لأنّها تتجاوز نطاق المنهج التجريبي إلى أفق الوجود والمعنى. العِلم يشرح آلية الحركة، لكنّه لا يسأل: ما ماهية الحركة؟ العِلم يُعالج الأمراض، لكنّه لا يُجيب: ما معنى الحياة؟ التقنية تُتيح الفعل، لكنّها لا تُحدِّد: ما الخَير؟ وما الواجب الأخلاقي؟

في لبنان لم يعُد يعنينا الهواء الملوّث، المياه المقطوعة، الضوء الخافت والوعي الغائب. نعيش الفوضى في كل أشكالها، أبعادها. وتداعياتها. تواجهنا أسئلة في كل شيء، وكل شيء من دون إجابات. أسئلة وجودية في علوم البقاء والاستمرارية، خصوصاً حين يكون صعباً أو مستحيلاً، والتقدّم مؤلم، والرجوع مؤلم أيضاً، والوقوف أشدّ ألماً من دون أن نعرف ماذا نفعل؟ نبقى كما نحن، ننزف ببطء حتى آخر نقطة دماء في عروقنا؟ نبقى من دون تقدّم، تراجع أو حتى توقف والانتفاض وقوفاً؟ أصبحت الهجرة من البلاد الموعودة والمقدّسة كما يحلو للبعض أن يُسمِّيها، مجرّد وطن في بلاد الغربة، أو غربة في الوطن.

 

بلاد الحقيبة التي أصبحت أفضل المساكن - المسافرة في المطارات القريبة والبعيدة، والمحطات الحديثة وقطاراتها السريعة. بلاد تدفعها جغرافيّتها السياسية إلى الهجرة عبر الموانئ البعيدة. جغرافيا تاريخية ترافقنا منذ ولادتنا حتى موتنا الموعود. جذورنا لا تنبت في الأماكن التي نصل إليها شبه أحياء، أو شبه أموات، ونستقرّ فيها ولا تصبح لنا وطناً ولا جذوراً. إنّ أصعب الأشياء على المرء المهاجر أو المُهَجَّر في حالتنا، أن يربط ذكرياته بشيءٍ ما، فيُصبح الفراق حالة من فقدان الذاكرة. وأصعب شيء أن تصنع حياة جديدة وحُلماً جديداً وقلباً جديداً ووطناً جديداً، في بلاد لا تُشبِه وجه بلادنا.

 

نحن أولاد الكلمات البسيطة وشهداء الخريطة والهويات الطائفية المعقّدة. بلاد التراتيل والأناشيد السياسية المُقدّسة. فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل، أعيدوا إلينا يدينا أعيدوا إلينا الهوية! نحن القادمون والهاربون من بلاد شهداء اللغة وضحايا الخريطة والأسماء والهويات القاتلة. نحن من البلاد التي حمّلوها أسلحة الإفقار والجوع والتجويع والانهيار.

 

صرخ شاعر الفزع مستنجداً: «أيّتها الجبال العالية، ألا تسمعيننا؟ النجدة، النجدة أيّتها الجبال العالية، سنتحلّلُ، موتى وسط موتى». ويقول الكاتب المسافر: «تذكرة السفر التي اشتريتُها هذه السنة تختلف عن التذاكر في السنوات السابقة. إنّها في اتجاه واحد ينطلق من بيروت إلى سيدني مروراً بمطار دبي. انطوى فجأةً زمن شراء تذكرة السفر ذهاباً وإياباً إلى بيروت».

 

ما كتبه الباحث والأكاديمي اللبناني بول طبر في كتابه «شذرات من سيرة ذاتية عادية»، كأنّه استدرك - كغيره من الذين سافروا قَسراً من بلدهم، وأمضوا حياتهم ينتظرون العودة إليه والاستقرار فيه - أنّ الهُوّة كبيرة بين الواقع والمتخيَّل، وأنّ الحياة قصيرة ولا تحتمل الانتظار كلّ هذه العقود من الزمن. وبحديثه عن تذكرة السفر الناقصة، كأنّه يقول، وبحسرة كبيرة بالطبع: «لقد انتظرناك طويلاً أيّها الوطن الحبيب، لكنّك لم تأتِ!».

 

خُلقنا في لبنان لنتألّم، ونحن نعلم ذلك ونسعى إلى كتمانه عن أنفسنا أو نحاول الكذب على أنفسنا. جميعاً في لبنان، باستثناء الفاسدين في الدولة وحاكمية المال وجمعية المصارف وسارقي قوت وكرامة الشعب، خُلفنا لنتألّم. وللأسف نعلم ونساعد سلطة الفساد السياسي والفساد المالي على قتلنا لنموت ونحن نتألّم. عندها لا يبقى شيء من الماضي القديم والحاضر بعد موتنا... تظلّ الرائحة والنكهة، وهما الأكثر هشاشة. لكنّ الأكثر وفاء، تظلّان لفترة طويلة، كأرواح. فوق حُطام كلّ ما يبقى، وتحملان، من دون تَراجُع، فوق قطراتها الصغيرة المتعذّر تحسّسها تماماً، صَرْحَ الذاكرة الهائل، إذ إنّ الذاكرة والألم توأمان، لا تستطيع قتل الألم من دون سحق الذاكرة!

 

منذ أواسط القرن الماضي وحتى أيامنا هذه، أصبحت «الجيوبوليتيكة» العنوان والوجهة والواجهة الرئيسة، أو الأرض والأرضية الأساسية والتأسيسية الجديدة مع وقف التنفيذ الإجتماعي والسيكولوجي والفلسفي. أصبحت الحاجة والحجة الأكثر أهمّية لمفهوم الصراع والتغيير. حاجة الجشع العالمي بكل أشكاله وألوانه ومراحله التاريخية من دون أسماء أو صفات. حاجة أو حجة البقاء، والصراع للبقاء على الجغرافيا «المركزية» عالمياً، الجغرافيا السياسية الأهم اقتصادياً، بامتيازات أخرى أكثر أهمّية، التي يجب علينا «نحن» الشرق أوسطيِّين في بلاد «بنت الصبح» أن نُحلِّل ونستنتج ونقيس من خلالها صعود تلك القوى إلى أقصى مراحلها الوجودية.

 

وصلت تلك الحاجَة والحُجَّة والمَحَجَّة مجدّداً إلى كل أنواع القتل والإقتتال على جغرافيّتنا التاريخية، بلحمنا وعظمنا ودمنا، لإعادة «تشكيل» زوايا الجغرافيا السياسية القادمة بالطول والعرض، أو لإعادة اقتسامنا أو تقسيمنا بحُجة الكلمة الضائعة بين خط متقاطع من ههنا وخط متقاطع من ههنا. وإعادة استخدامنا طبقاً لمصالحهم وحججهم الخنفشارية في «قوانين» المصالح «العليا» والاختراعات والمؤامرات الجيوسياسية تاريخياً.

 

إنّه الصراع الجديد أو المتجدّد على احتكار القوّة والسلطة والمساحة، التي بدأت في ما يعود إلينا وإلى منطقتنا من احتلال فلسطين. فلسطين الإحتلال «النموذجي» للرأسمالية الجيوسياسية والإحتلال النموذج تاريخياً، وامتدّت إلى حروب الطاقة والمياه والحدود والمنافذ والممرّات... هل نحن أمام فصل أو مشهد آخر من مسرحية صمويل بيكيت العبثية في «انتظار غودو»، أم أنّنا في انتظار شيء ما أكثر عبثية؟!

 

دموع العالم هي كمّية ثابتة لكل واحد يبدأ بالبكاء. في مكان آخر هناك آخر يتوقف عن البكاء. وينطبق الشيء نفسه على الضحك كما على البكاء. دعونا لا نتحدّث عن جيل منا بأكمله، عاش على الضحك على نفسه ومات من البكاء المُرّ عليها. نحن لسنا أقل تعاسة من أسلافنا في الضحك على أنفسنا، ومن ثم البكاء عليها. نحن في الجغرافيا الغبية والملعونة ما زلنا نتحدّث، ننتظر، نضحك ونبكي في المحطات والطوابير. ننتظر، في غرفة عمليات لا إنسانية ممتدّة من النهر إلى البحر، عودة «غودو» - غير الموجود سوى في عقولنا - العبثية. ننتظر في أماكننا من دون حراك، صوت، همسة أو لمسة في أخطر مراحلنا الوجودية!

theme::common.loader_icon