نكاد نجزم، أنّ النقاش الدائر في البلد اليوم، هو في الطلب الأميركي الإنخراط في مفاوضات مباشرة مع العدو الإسرائيلي، لوقف الانتهاكات المتصاعدة منذ السابع من تشرين الثاني العام 2024، إذ تواصل إسرائيل خرق اتفاق وقف الأعمال العدائية التي أقرّها مجلس الأمن الدولي.
ليست الدعوة إلى التفاوض بين إسرائيل ولبنان بالجديدة أو الإستثنائية، وهي جرت بشكل غير مباشر عبر الوسطاء في عمليات تبادل الأسرى وترسيم الحدود البحرية، وبعد العدوان الأخير كانت لجنة «الميكانيزم» التي تضمّ لبنان والأمم المتحدة وممثلين عن الاحتلال الإسرائيلي وأميركا وفرنسا، لجنة التفاوض غير المباشر بين الاحتلال لبنان.
لكنّ الجديد هو الضغط الأميركي لدفع لبنان إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، في ظل الانتهاكات لكل الاتفاقات وبرعاية ودعم أميركي، كان يفترض أنّه ضامن لتنفيذ الاتفاق وعدم خرقه.
يقول البعض، الذي يتقدّمهم رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، إنّ لا خيار أمام لبنان سوى التفاوض! ويسأل هذا البعض، ماذا يستطيع لبنان فعله لوقف الإعتداءات الإسرائيلية؟ ولا يكتفي هذا البعض بما تقدّم، بل يجاهر بأنّ لبنان لم يلتزم الإتفاق، وأنّ الإعتداءات الإسرائيلية مبرّرة بسبب عدم تسليم «حزب الله» السلاح. لا يكتفي جعجع بهذا التنازل المفرط بكل قوّة تفاوض لبنانية، وهو يُصرّ على التفاوض المباشر مع العدو، مُخيِّراً اللبنانيِّين بين التفاوض أو القتل.
مواقف تُعمِّق الإنقسام بين اللبنانيِّين، وتهدم وِحدتهم، في زمن أشدّ ما يحتاجه لبنان فيه هو وحدة الموقف لمواجهة العدو وأطماعه، في ظل تغيّرات إقليمية ودولية يتشكّل معها عالم جديد تريده أميركا تابعاً، ويُريده خصومها تعدُّدياً مستقلاً. وأمام هذا الواقع كيف للبنان أن يفاوض في ظل انقسام داخلي غير مسبوق؟ ما هي الاستراتيجية للتفاوض، وما هي الأهداف؟ ما هي الضمانات وماذا لو لم تحقق المفاوضات مصلحة لبنان العليا؟
ما أن انتهى العدوان الإسرائيلي حتى بدأ فريق لبناني تقوده «القوات اللبنانية» بشنّ حرب إعلامية وسياسية تستهدف «المقاومة» وبيئتها. وتُبرِّر للعدو قتل اللبنانيِّين وانتهاكاته لاتفاق وقف إطلاق النار وتُهاجم أي قرار أو مبادرة لعودة اللبنانيِّين إلى قراهم المهدّمة، غير آبهة بمعاناتهم وتضحياتهم التي قدّموها حماية للبنان.
تُهَاجم كل مبادرة يطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار بين اللبنانيِّين، في ظل نظامهم الطائفي التوافقي. فكيف يستوي طلب التفاوض في مقابل الإصرار على ضرب الوحدة الوطنية، التي تُشكّل قوّة للمفاض اللبناني وحماية للحقوق اللبنانية وسيادة الدولة على أراضيها؟
واهمٌ مَن يظنّ أنّ باستطاعته سلب الشعب حقه بالدفاع عن وطنه في وجه المحتل. فالمسألة ليست حصراً بطائفة أو حزب أو جماعة، بل هي واجب كل لبناني الدفاع عن لبنان وتحرير أرضه، وفق ما جاء في دستور الطائف. فكيف يستقيم الأمر بطلب الإنخراط في مفاوضات مع العدو وتحييد السلاح، أهم قوّة بيَد لبنان، الذي يُشكّل مع الشعب والجيش ثالوثاً وطنياً، وحده القادر على حماية لبنان ومنع إسرائيل من تحقيق أهدافها وأطماعها في هذا البلد الرسالة، نقيض كيان مصطنع احتلالي عنصري؟
ممّا لا شك فيه، أنّ توازن القوّة اختلّ لصالح العدو بعد العدوان الإسرائيلي وسقوط سوريا. لكنّ هذا الإحتلال لا يعني سقوط أوراق القوّة كاملة مِن يَد لبنان، فيما إسرائيل تمرّ بمرحلة هي الأصعب منذ احتلال فلسطين، وفق أركان في سلطة الاحتلال. يجب ألّا يغيب عنّا أنّ «المقاومة» في لبنان من قومية وعلمانية وإسلامية، راكمت منذ سبعينات القرن الماضي انتصارات تُوّجت بتحرير العام 2000 واستقرار لأكثر من 20 عاماً بفعل سلاح الردع، وهو حقيقة أمام تضليل مَن يقول بعدم جدوى «المقاومة»، فالإعتداءات الإسرائيلية على لبنان براً وبحراً وجواً بعد الحرب الأخيرة، أكّدت أنّ «المقاومة» وسلاحها عامل قوّة في التحرير ومنع العدوان. وهنا نسأل: لماذا يُصرّ البعض على التفاوض ونزع هذه القوة الرادعة، وهل التفريط بقوة وتضحيات اللبنانيِّين مصلحة لبنانية أم إسرائيلية؟
إذا كان لبنان ذاهب إلى المفاوضات مع إسرائيل في ظل اختلال توازن القوّة مجرّد السلاح مكسور الوحدة، سيعود باتفاق كلّه في صالح العدو، سيكون الخاسر فيه كل اللبنانيِّين على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم؟
إنّ التمسّك بالقرارات الدولية من اتفاق الهدنة إلى القرار 1701 هو أساس أي تفاوض مع العدو عبر لجنة «الميكانيزم» التي انبثقت عن قرار مجلس الأمن. أمّا أي تفاوض في ظل الانقسام الداخلي وخارج وحدة «الجيش والشعب والمقاومة»، فسينتهي بنسف حقوق لبنان التي ضمنتها القرارات الدولية، ومنح إسرائيل برعاية ودعم أميركي الحق في استباحة وقتل اللبنانيِّين ونهب ثرواتهم وتحقيق أطماع الحركة الصهيونية منذ هرتزل إلى نتنياهو.
أمّا التفاوض المباشر خارج الوحدة الوطنية على أولويات التحرير والسيادة الكاملة، فهو قفزة في المجهول، يضع لبنان على خارطة الزوال ومعه دول عربية في مشروع إسرائيل الكبرى.