يعود آري آستر بفانتازيا غربية ديستوبية عن عالم فَقَد صوابه، ولا شك أنّك تذكره جيداً. القفزة المرعبة الأولى، وربما الوحيدة، في فيلم «إدينغتون» للمخرج آري آستر، تأتي في بدايته مباشرة. رجل مسنّ حافي القدمَين يترنّح في وسط الطريق الذي يخترق بلدة غربية مهجورة. يثرثر بكلمات مبعثرة وغير مترابطة، بينما يصعد تلاً صخرياً ترتسم فوقه سماء الغروب. ينظر إلى البلدة أسفل منه، أو لعلّه يُحدّق فيها بامتعاض. ثمّ تأتي الصدمة على شكل نصّ على الشاشة: أواخر أيار 2020.
إربط الأحزمة وتمسّك جيداً. الآن نعرف لماذا الشوارع خالية، وتبدأ ثرثرات الرجل في اتخاذ بُعد جديد: ربما هو مجرّد مختلّ عادي، وربما أصابه الجنون نتيجة الأسابيع الـ8 الأخيرة. أو ربما هو العاقل الوحيد المتبقّي. مَن يدري؟ في أواخر أيار 2020، حتى أكثرنا تماسكاً شعر بأنّه أقرب إلى حبة زبيب ضائعة من قالب حلوى الجنون.
كنّا نعيش في ظل تهديد غير مرئي، ربما يقضي على البشرية، الناس يموتون، وصفارات الإنذار لا تتوقف. لكنّنا كنّا أيضاً محاطين بشاشات تنفث حقائق فعلية، أنصاف حقائق، أكاذيب تشبه الحقائق، وتفاهات كاملة. بدا كل هذا أكثر واقعية من الواقع نفسه، الذي بات أشبه بشيء رأيناه يوماً في فيلم.
ذلك الإحساس بالواقع غير الواقعي هو ما يحاول فيلم «إدينغتون» التقاطه، وهو تخصّص آري آستر.
من الصعب أن يكون لديك ردّ فعل «عادي» على فيلم من أفلام آستر، وربما لم يكن هذا واضحاً كما هو مع «إدينغتون».
هذا الفيلم هو «وسترن»، يتمحور حول جو كروس (يواكين فينيكس)، الشريف المصاب بالربو ويعاني في بلدة إدينغتون في نيو مكسيكو. يعيش مع زوجته المكتئبة لويز (إيما ستون)، التي تصنع دمى غريبة وتبيعها عبر الإنترنت، ووالدتها دون (ديدري أكونيل)، التي انتقلت للعيش معهما منذ بداية الجائحة وأصبحت مهووسة بنظريات المؤامرة على «يوتيوب».
جو يحمل في داخله غيظاً متراكماً تجاه رئيس بلدية إدينغتون الحالي، تيد غارسيا (بيدرو باسكال)، الذي لا يُعتبر شخصاً سيّئاً بحدّ ذاته، لكنّه مزعج إلى حدّ ما: طويل، وسيم، ثري، تقدّمي «استعراضي»، والأهم من ذلك، كان حبيب لويز قبل 20 سنة. كما أنّ جو مستاء من قرار فرض الكمامات في المقاطعة، لأنّه لم تُسجّل حالات كوفيد في إدينغتون، ويزداد انزعاجه حين يصرخ الناس في وجهه ليضع الكمامة حتى وهو داخل شاحنته.
يشعر جو بالإحباط من خواء البلدة، ومن الواجهات التي تحمل لافتات مثل: «مغلق حتى إشعار آخر بأمر من د. فاوتشي»، بجانب لافتات أخرى تقول: «معاً أقوى». يُقلِقه حال لويز، التي تقضي النهار كله محبوسة مع دون؛ ويبدو أنّهما واقعتان تحت تأثير شخصية من نوع «مؤثّر صحي» أو ربما زعيم طائفة، يُدعى فيرنون جيفرسون بيك (أوستن باتلر). كل شيء بدأ يتسلل تحت جلد جو.
في أحد الأيام، ينفجر ويسجّل فيديو على «فيسبوك» يُعلن فيه ترشّحه لمنصب رئيس البلدية ضدّ تيد. تزامناً، تصل حالة الغضب التي أثارها مقتل جورج فلويد إلى مراهقي إدينغتون الواعين اجتماعياً، وتتقاطع احتجاجاتهم مع سائر فئات البلدة. يبدو أنّ الجميع مقتنع بأنّ «هم» قادمون إلى إدينغتون، لتدمير نمط حياتهم المفضّل. حسناً. وماذا لو كانوا فعلاً كذلك؟
حبكة هذا الفيلم من الصعب شرحها بشكل غريب، ربما لأنّ وصف صيف 2020 يجعلك تشعر بالجنون التام. لقد أغفلت الكثير ممّا يتضمّنه الفيلم، مثل مركز بيانات تقترح شركة تُدعى solidgoldmagikarp، وهو اسم يُعتقد أنّه يشير إلى أحد هذه الأمور الثلاثة: ميم جزئي من عالم البوكيمون، أو اسم مستخدم غامض على «ريديت»، أو كلمة تُدخل Chat GPT في حالة هلوسة فوضوية.
وهذه إشارة دقيقة لطبيعة الفيلم، الذي يحفل بتلميحات مبطّنة لأشياء لا أحد يحنّ إليها. هل لتلك الإشارات أي معنى؟ ليس فعلاً. إنما «إدينغتون» يدفعنا إلى بحر من الذكريات الحديثة والغثيان الذي يعاودنا معها، ويُلوّح لنا من الشاطئ بينما نتحوّل إلى اللون الأخضر.
لكن هذا لا يعني أنّ الفيلم ممل. إطلاقاً. كلٌّ بحسب قدرته على تحمّل هذه المواضيع، لكنّني وجدتُ نفسي أضحك حتى الاختناق في بعض اللحظات، أحياناً من شدّة التعرّف على النفس، وأحياناً لأنّ آستر يملك عيناً دقيقة لما هو أكثر عبثية في الطبيعة البشرية.
ومع حلول الفصل الثالث، ينزلق الفيلم نحو كوميديا عنيفة، تخلط بين عنف «وسترن» مفرط وجنون أفلام لوني تونز. من المغري تسمِيَته سخرية، لكنّ السخرية تهدف إلى المبالغة لإثارة التأمل وإيصال فكرة. «إدّينغتون» لا يسعى إلى دروس أخلاقية بقدر ما يسعى إلى المهزلة التامة.
ومع ذلك، لا يمكن للفيلم إلّا أنّ يقول شيئاً، ربما رغماً عنه. فالناس متفرّقون ونادرون في معظم المشاهد، بسبب اتساع المنظر الطبيعي في الجنوب الغربي من الولايات المتحدة، وأيضاً بسبب التباعد الاجتماعي. وبهذا الفراغ، تبدو البلدة أشبه بمكان فقير شهد أياماً أفضل، وأصبح عرضة لأعمال عنف عشوائية، وهذا ما يحدث فعلاً. وجدت نفسي أفكر بصور المصوّر غريغوري كريودسون، الذي يضع مشاهد من الفراغ والانحلال تجسّد الوحدة والعزلة القاتلة في البلدات الأميركية الصغيرة. وتبيّن أنّ آستر نفسه كان يُفكّر في كريودسون: فقد دعاه ليُنتج عملاً فنياً في موقع التصوير.
وبينما كان ذهني يرتعش من شعور مألوف أثناء مشاهدتي للفيلم، لم أدرك إلّا في المشاهدة الثانية أنّ مصدر هذا الشعور كان فيلم تود هاينز القلق والمقلق Safe 1995. ومنذ ذلك الحين أحاول فهم السبب، إذ لا يتشابه الفيلمان في الظاهر، لأنّ «إدّينغتون» أفضل وصف له ربما هو «كوميديا وسترن مؤامرات ديستوبية».