من على مقاعد البدلاء في ملعب «سان سيرو»، كان لاوتارو مارتينيز وفيديريكو دي ماركو عاجزَين تماماً. كان قائد إنتر وزميله البطل المحلي المشجّع الوفي للنادي مدى الحياة، قد استُبدِلا في مواجهة برشلونة. تقدّم إنتر 2-0 في الشوط الأول، ثم قلّص الضيوف الفارق إلى 2-1، وسرعان ما عادلوا النتيجة، ثم، قبل 3 دقائق فقط من النهاية، بدا أنّ حُلم إنتر بالوصول إلى نهائي دوري الأبطال قد تحطّم، بعدما أتمّ رافينيا «ريمونتادا» مذهلة.
يعترف مارتينيز، مرتدياً خفّيه، خلال يوم إعلامي مشمس في مقر تدريب إنتر الريفي في أبيانو جنتيلي: «كنتُ محطّماً تماماً»، إذ كان من المتوقع أن يغيب بسبب الإصابة، لكنّه شارك وسجّل. وأضأف: «عندما أزال الطاقم الطبي الضمادات عن ساقي، استرخَت العضلة وكان الألم لا يُحتمَل. لكنّ الأعصاب والأدرينالين الناتجَين عن أجواء المباراة جعلا الألم يتلاشى».
أمّا دي ماركو، فكان مذهولاً من انقلاب الموازين لصالح برشلونة. وعلى رغم من أنّ الهدف بدا وكأنّه قادم لا محالة، إلّا أنّه شكّل صدمة بالنظر إلى الأداء القوي لإنتر في الشوط الأول، مُقراً: «خيبة أمل كبيرة، لم نكن نتوقعها».
في مقاعد كبار الشخصيات، كشف ليلي أداني، لاعب إنتر السابق، أنّ الأسطورة ماركو ماتيراتزي نهض من مقعده وغادر عندما أصبحت النتيجة 3-2. واتجه مشجّعون آخرون لإنتر نحو المخارج. ويعترف خافيير زانيتي، نائب رئيس النادي والقائد الفائز بدوري الأبطال: «لقد عانَينا كثيراً».
في المقابل، فرغ مقعد بدلاء برشلونة، حيث اندفع البدلاء واللاعبون المستبدلون نحو الملعب للاحتفال مع رافينيا، الذي بدا هدفه وكأنّه ليس فقط حاسماً للفوز، بل ختماً على بطاقة ترشحه للكرة الذهبية.
كانت ضربةً قاسيةً لإنتر. ويكد نيكولو باريلا عابساً: «بالنسبة لي كانت أقسى، لأنّني إذا شاهدتُ اللقطة مجدّداً، سترى أنّني فقدتُ الكرة. عاطفياً، كان ذلك مؤلماً للغاية».
في تلك اللحظة، انفتحت السماء. أمطرت بغزارة فوق كل مَن كان تحت عوارض «سان سيرو» الحمراء الشهيرة. لكنّ المدرب سيموني إنزاغي، لم ينسحب بحثاً عن غطاء، ولم يطلب سترة واقية من المطر. بل قرفص على الخط الجانبي، وبدلته مبلّلة تماماً، محاولاً تحفيز فريقه.
ويؤكّد: «من الطبيعي أنني لم أكن سعيداً فور تسجيل الهدف في مرمانا. لكن نظراً إلى ما قدّمناه في المباراتَين ضدّ برشلونة، كنتُ أعلم أنّنا ما زلنا نملك الفرصة. ولحسن الحظ، كان اللاعبون يؤمنون بذلك أيضاً».
في الدقيقة 93، إلتفَتَ المدافع فرانشيسكو أتشيربي، إلى زميله ماتيو دارميان وقال: «أنا ذاهب». إلى أين؟ بينما أرسل الحارس يان سومّير كرة طويلة بعيدة الأمل، اندفع أتشيربي نحو منطقة جزاء برشلونة. هل كان أحد يعلم ما يفعله؟ لا. ويُقرّ ماركوس تورام وهو يهزّ رأسه: «ولا أنا أيضاً. الجميع يتحدّث عن التكتيك، لكن كرة القدم تبقى كرة قدم، وتحتاج إلى قليل من السحر أحياناً».
فاز تورام بالكرة الثانية، رفع دنزل دومفريس عرضية، وسجّل أتشيربي هدف التعادل، ليقود المباراة إلى الوقت الإضافي. إنّه إنهاء يَليق بـ»جوزيبي مياتزا»، المهاجم الذي يحمل الملعب اسمه. وكان أيضاً تجسيداً خالصاً لإنتر: نادٍ أسّسه فنانون وشعراء، قادر على أن يقطع أذنه (كما فعل عندما فرّط بتقدّم 2-0 في كلتا المباراتَين)، كما هو قادر على رسم تُحفة في دوري الأبطال.
ويُضيف دارميان: «خرجَت روح إنتر الحقيقية». إنّها «بازا (المجنونة) إنتر»، حين يتجرّأ المدافعون على التحوّل إلى مهاجمين مرتجِلين. ويُعلّق زانيتي: «بدأت مباراة أخرى بعد ذلك».
هذه المباراة الأخرى كانت تلك التي فاز فيها إنتر في الوقت الإضافي، حين صنع البديلان مهدي طارمي ودافيدي فراتيزي هدفاً جعل النتيجة 4-3 في تلك الليلة، و7-6 في مجموع المباراتَين، ليحجز الفريق مقعده في نهائي دوري الأبطال.
يؤكّد دي ماركو: «بصراحة، بكَيتُ بعدها. كانت مشاعر كثيرة في داخلي لم أستطع التعبير عنها». فجأةً، عاد الألم إلى ساق لاوتارو، ويؤكّد ضاحكاً: «لم أستطع رفع ساقي لمدة يومَين». لكنّه أصبح جاهزاً الآن لمباراة الليلة في ميونيخ.
ويُضيف باريلا بارتياح: «بفضل آتشي ‹فراتي وباقي الفريق، فعلنا شيئاً سيُخلَّد في التاريخ. تلك المباراة ستدخل كتب دوري الأبطال».
قبل مباراة الإياب، خرج مسؤولو إنتر لتناول الغداء مع نظرائهم من برشلونة. كان من بينهم الرئيس جوزيبي ماروتا وزانيتي، إلى جانب أعضاء مجلس الإدارة الذين يمثلون مالك إنتر الأميركي، شركة إدارة الأصول «أوك تري». اتفق الجميع على أنّ المباراة الأولى لم تكن رائعة كروياً فقط، بل أيضاً ساعدت في تحسين صورة الناديَين، لكن لصالح إنتر أكثر من برشلونة، الذي يملك أصلاً مكانةً مرموقة.
هذه المكانة حديثة نسبياً، إذ بينما ارتفعت أسهم أحد الناديَين، تراجعت الأخرى. كان إنتر الأكثر نجاحاً لسنوات طويلة. فاز بكأس أوروبا عامَي 1964 و1965، ثم خسر نهائيَّي 1967 و1972. أمّا برشلونة، فوصل إلى النهائي عامَي 1961 و1986، ولم يُحقّق اللقب إلّا عام 1992. حينها، كان النادي الكاتالوني عاجزاً عن منع رحيل نجوم مثل لويس سواريز الأصلي ورونالدو بعد حصولهما على الكرة الذهبية، لصالح إنتر، الذي كان في ذلك الوقت أغنى بفضل ثروة عائلة موراتي من مصافي النفط في سردينيا.
حتى في عام 2009، خسر برشلونة صفقة تبادلية أرسل فيها صامويل إيتو إلى إنتر مقابل زلاتان إبراهيموفيتش. ذلك الموسم، قاد زانيتي إنتر لتحقيق ثلاثية تاريخية عام 2010، وهو إنجاز غير مسبوق في الكرة الإيطالية. لكنّ هيمنة برشلونة كانت قد بدأت، تماماً كما هذا العام، أُقصوا من نصف النهائي أمام إنتر. إلّا أنّ بيب غوارديولا، ليونيل ميسي، و»لا ماسيا»، حوّلوا برشلونة من نادٍ كبير إلى علامة تجارية عالمية.
الأوقات تغيّرت. عندما باع ماسيمو موراتي إنتر عام 2013، شبّه الأمر بسحب البطاقة الائتمانية من ابنته المدلّلة. كان على النادي أن يعتمد على نفسه. أي أنّه كان عليه أن يتحوّل من حالة الدلال إلى شركة تُدار كعمل تجاري.
فشل إنتر في التأهل إلى دوري الأبطال لـ6 سنوات، ولم يَفز بالدوري لنحو عقد. وكان تحت ظل يوفنتوس محلياً، وغير موجود فعلياً أوروبياً.
تميّزت الـ»بريميرليغ» بالاندفاع لتحويل نفسها إلى الدوري الأغنى والأكثر مشاهدة في العالم، في وقت ظل فيه «سيري أ» في حالة من الجمود. ويعترف ماروتا: «في 20 عاماً، تضاعفت إيرادات الـ»بريميرليغ» 3 مرّات مقارنة بنا».
انفتح الفارق واتسع لأمرَين: أولاً، سيحتفل «سان سيرو» بمئويّته العام المقبل. وهو أحد عجائب كرة القدم في العالم، ويظهر في قوائم كل مشجّع. لكنّه الآن مصنّف كمعلم أثري، وحتى لَو لم يكن، فإنّ إعادة تطويره ستُكلّف بقدر أو أكثر من بناء ملعب جديد. كما أنّ ملعباً جديداً سيكون أكثر ربحاً من «سان سيرو» المجدّد.
ويرى ماروتا: «أكبر ما ينقص إيطاليا هو ملاعب حديثة تُدرّ عائدات أعلى من يوم المباراة. هذا من شأنه مضاعفة دخلنا. هذا الموسم جمعنا 80 مليون يورو، وبوجود ملعب جديد، يمكننا مضاعفة ذلك. مقارنةً بأوروبا، هذه أكبر نقطة ضعف لدينا. نحن في المركز الأخير في ما يتعلق بالاستثمار في البنية التحتية للملاعب».
السبب الثاني متعلق ببساطة بسؤال: إذا كنت تعيش خارج إيطاليا، ما مدى سهولة متابعة «سيري أ»؟ فيُضيف ماروتا: «العامل المهم الآخر هو تحسين بيع حقوق البث التلفزيوني، خصوصاً الحقوق الأجنبية. مقارنةً بالـ»بريميرليغ:، النسبة هي 1 إلى 10».
كان إنتر دائماً الأقل استغلالاً تجارياً بين كبار إيطاليا الثلاثة. لديه إمكانات ضخمة، لم يُستغل معظمها. وعلى رغم من كونه أحد 8 أندية فازت بـ3 ألقاب دوري أبطال أو أكثر، احتلّ المركز الـ14 في قائمة «ديلويت» للأندية الأعلى دخلاً. 4 فرق أمامه (باريس سان جيرمان، أرسنال، توتنهام، وأتلتيكو مدريد) لم يفز أي منها بدوري الأبطال.
فاز مانشستر سيتي بلقبه الأول على حساب إنتر قبل عامَين في إسطنبول. أعاد ماروتا إنتر إلى مستوى تنافسي يليق بتاريخه، ورفعه مالياً إلى ما يفوق قدراته.
إنّه النهائي الرابع في دوري الأبطال في مسيرة ماروتا. الوحيد الذي تفوّق عليه في إيطاليا هو أدريانو غالياني، المدير التنفيذي السابق لميلان. قبل إنتر، كان ماروتا المدير التنفيذي لكرة القدم في يوفنتوس، الذي وصل إلى نهائيَّين بين 2015 و2017. تكرار ذلك ليس صدفة.
ما سرّه؟ هل هي ثقافة الفوز التي يزرعها؟
يؤكّد ماروتا: «أولاً وقبل كل شيء، يجب أن يثق المالكون بالإدارة. وإذا حصلت على تلك الثقة، يجب أن تملك خاصيّتَين: الكفاءة، وأخلاقيات العمل وثقافة الشركة. الإحساس بالانتماء. هذه القيم أساسية. المال وحده لا يُحقّق البطولات؛ بل هذه العوامل».
على سبيل المثال، الفارق في الإيرادات بين إنتر والفِرَق التي أقصاها كبير. بايرن ميونيخ حقق 765,4 مليون يورو من تذاكر المباريات، الرعاية، وحقوق البث الموسم الماضي. في المقابل، إنتر حقق 391 مليون يورو، أي أقل من النصف. الفجوة مع برشلونة مشابهة، وتزداد اتساعاً مع باريس سان جيرمان.
حين بلغ إنتر نهائي 2023، لم يُنظَر إليه كمفاجأة فقط، بل كنهاية مرحلة. المالك السابق، مجموعة صينية تُدعى «سونينغ»، أنفقت كثيراً في البداية. لكن مع الجائحة، واجهت ضغوطاً مالية هائلة. لتمويل إنتر، اقترضت 275 مليون يورو من «أوك تري» بفائدة 12%، بضمان أسهمها في النادي.
اضطرّ ماروتا إلى التكيّف. من كسر الأرقام القياسية لضمّ لاعبين مثل باريلا ولوكاكو، إلى بيع نجوم كبار مثل حكيمي... ولوكاكو. معظم الصفقات كانت مجانية، وهذه نقطة قوة لماروتا منذ أيام يوفنتوس. بعضهم، مثل أونانا، بيعَ لاحقاً بأرباح. والبعض الآخر (دي فري، مختاريان، تشالهانوغلو، وتورام) لا يزالون.
العام الماضي، تخلّفت «سونينغ» عن السداد، فاستحوَذت «أوك تري» على النادي، ما أعاد الاستقرار إلى إنتر: حسّنت الهيكل الإداري، وتُخطِّط للاستثمار في مرافق مثل مركز التدريب. ما منح إنتر قاعدةً صلبة للنمو.