

في كلا الحالتَين، تُشكّل البلديات خط الدفاع الأول للمواطن، على رغم من أنّها تُركت غالباً من دون إمكانيات تليق بهذا الدور المحوري، بُغَية حصر قدرتها للزبائنية السياسية التي امتهنها أكثرية نواب ساحة النجمة من فجر لبنان الكبير.
بلديات على جبهات النار
منذ إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024 تحوّلت قرى وبلدات بأكملها إلى ساحات مباحة لكل شيء إلّا الإعمار.
قصف متقطع، واستمرار التهجير، ودمار شامل للبنى التحتية من دون أن يتحرّك ساكن، واستمرار شلل البيئة الاقتصادية والاجتماعية، إذ تستحيل العودة من دون برنامج وطني بعيد من زواريب الثنائي وحسباته، فما أصاب هذه البلدات أصاب كل لبنان، ونهضتها من نهضته.
بلدية مثل عيترون تجد نفسها في قلب الجحيم من دون قطرة ماء تروي لهيب الآلام التي أصابتها، من أصل 4 آلاف منزل لم يسلم إلّا 100 وهي بحاجة للترميم، بالإضافة إلى طرق مدمّرة، وشبكات مياه وكهرباء لم تَعُد موجودة.
البلديات هنا لا تملك موارد مالية للنهضة. فقد توقفت الحياة وانهار كل شيء. المجالس البلدية تحاول التنسيق مع منظمات الإغاثة لتأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة. فبحسب تقييم البنك الدولي للخسائر الناتجة من الحرب تخطّت 14 مليار دولار.
القرى النامية: تحدّيات من نوع آخر
على بُعد عشرات الكيلومترات من جبهات الجنوب، هناك قرى مثل كفرنبرخ في الشوف أو بزعون في قضاء زغرتا أو عندقت في محافظة عكار، تنمو ببطء، وسط استقرار أمني ونمو للاقتصاد المحلي مقبول، على رغم من تداعيات الحرب والأزمة الاقتصادية الشاملة التي تعصف بنا منذ سنة 2019. هنا، تختلف التحدّيات، البلديات تحاول التوسع في تقديم الخدمات، جذب الاستثمارات، وابتكار حلول بيئية وتنمية رقمية.
في هذه القرى وعلى سبيل المثال لا الحصر، حضنت اللائحة التي أُعلنت تحت عنوان «كرمال عندقت» حضوراً متزايداً للشباب، وترشح 40% من أعضائها من السيدات الفاعلات، وضموراً للأحزاب التقليدية. هذا النموذج من اللوائح المرشحة إلى البلديات تطمح لتحقيق مشاريع تنموية مثل التحوّل الرقمي، إدارة النفايات، إنشاء مساحات عامة، وجذب الاستثمارات. تتعامل هذه اللوائح المرشحة إلى البلديات مع التحدّيات من موقع الشراكة مع المواطنين والمنظمات الأهلية والدولية، لا من موقع العزلة التي كرّستها الأحزاب التقليدية التي قادت لبنان إلى الإنهيار.
تؤكّد إحدى مرشحات لائحة «كرمال عندقت»: «نحن نؤمن بأنّ الحُكم المحلي لا ينجح من دون مشاركة المجتمع. نطمح لتطبّيق مفهوم التشاركية، المبني على التشاور مع الناس قبل كل مشروع».
وجهان للبنية التحتية
في الجنوب، تصف التقارير البنى التحتية بأنّها «منهارة بالكامل». لا مياه صالحة، لا كهرباء، الواقع يصعب وصفه، إنّنا أمام كارثة حقيقية.
أمّا في القرى النامية، فهناك طموح لتطوّر تدريجي، في تطوير وصيانة شبكات المياه، تحسين الطرق وتأمين السلامة المرورية، وتنظيم النقل المشترك المحلي، وحتى يرتفع مطلب نشر البيانات البلديات على منصات إلكترونية لتحقيق حَوكمة رشيدة وشفافية مالية.
التفاوت في الموارد والشراكات
تعتمد بلديات الجنوب على مساعدات طارئة من منظمات دولية تستهدف الحاجة الإنسانية الملحّة والآنية. بينما تجد البلديات النامية فُرَصاً لتوقيع شراكات مع برامج الاتحاد الأوروبي، ما يمنحها تمويلاً تقنياً ومالياً يُعزّز مشاريعها طويلة الأمد.
هذا التفاوت لا يُعزى فقط إلى الحرب، بل إلى غياب رؤية وطنية شاملة لدعم وتطوير العمل البلدي.
حوكمة أم بقاء؟
بلدية مدمّرة تُجبر على الاختيار بين تأمين المياه أو إزالة الركام. أمّا البلدية النامية، فمشكلتها ليست البقاء بل تطوير آليات الحكم الرشيد، كالمحاسبة والموازنة التشاركية والتحوّل الرقمي. في الحالتَين، هناك بلديات تقاوم بما أوتيت من قوة، على رغم من شحّ الإمكانات أو تعقيد التشريعات. لكنّ الفارق أنّ البلديات في مناطق الحرب تعمل من أجل «البقاء»، بينما البلديات في المناطق المستقرة تسعى إلى تحقيق «التنمية».
نحو رؤية متكاملة
ما تحتاجه البلديات اليوم ليس فقط تمويلاً، بل سياسة لامركزية عادلة، هناك حاجة ملحّة إلى إعطاء البلديات صلاحيات أوسع وتمويلاً مباشراً، بما ينسجم مع واقعها الديموغرافي والجغرافي وحجمها الإقتصادي.
إنّ الفجوة بين بلديات القرى المدمّرة والبلديات النامية في باقي المحافظات، هي فجوة غياب لدور الدولة السيدة والعادلة لكل أبنائها قبل أن تكون فجوة موارد. ما نحتاجه هو العدالة الناجمة عن الرؤية الوطنية لدور الدولة لبناء الهوية الدامجة للتنوّع بكل مستوياته.
البلديات في لبنان ليست مجرّد إدارات محلية، بل هي مرآة لواقع البلد ككل. في القرى المدمّرة، هي خطوط التماس مع الكارثة، وفي النامية، هي بوابة أمل لإدارة محلية حديثة. لكن من دون دعم فعلي، ورؤية وطنية واضحة، ستبقى هذه البلديات إمّا تحت الأنقاض، أو في حالة نمو غير مكتمل.








