"على نار هادئة" بداية شيّقة ونهايةٌ هشّة
"على نار هادئة" بداية شيّقة ونهايةٌ هشّة
نسرين بلوط
Tuesday, 07-Feb-2023 06:54

في تعرّجاتٍ استباقيّة للعقل الإجرامي، تتشدّق بأغانٍ منطويةٍ على نفسها، وبشخصيّاتٍ مهزوزة تحفل بطلاسم ماضٍ مغبّشٍ بذكرياتٍ قاتمة تتراءى مثل المرايا المتشظيّة على جدران النقمة المتسربلة بالعِقَد الدفينة والمجمّدة مؤقّتاً حتّى تجد طريقها للانتقام، تنطلق بولا هوكنز في روايتها «على نار هادئة» لتجدّ في محاولاتٍ متكرّرة بأن تجتذب الإثارة الكامنة في النفس البشريّة وتسلّط وتحتكم مثل شبكة العنكبوت في المسافات الرحبة بمطرقة تعيدها إلى منكب الأحياء قبل بلوغها عالم الأموات، مجهرَ التأمّل في مطبّات الشرّ والخير في الأرواح الهائمة في عالمٍ غير مثالي.

نرى شخصيّات الرواية تزعق وتهدر وتغضب بلا هدوء، فتبدأ بلورا الفتاة العاملة البسيطة التي تعاني من انفصام الشخصيّة بسبب حادثٍ تعرّضت له في صغرها وتركها شبه ميّتة وأتلف الكثير من خلايا دماغها، عندما دهسها عشيق أمّها بسيّارته بعد أن هرع مغادراً بيتهم قبل وصول أبيها من العمل، ولم يتنبّه إليها وهي تقود درّاجتها عائدةً من المدرسة. ورغم هذا، تنشب أمّها أظافرها وتدافع عنه بكلّ قواها على حساب طفلتها، وتنفصل عن والدها لتتزوّج به، غير آسفة على ما حدث لابنتها من إصاباتٍ دائمة. كذلك تدخل زوجة جديدة إلى حياة الأب، فتتبدّد آمالها بحياة هادئة، وتغادر المنزل لتشقّ طريقها وحيدة في مدينة جديدة ومناخٍ غريب.

 

يضمّ الفصل الأوّل مشهد لورا وهي تغادر منزل عشيقها دانييل غاضبة مترنّحة ثملى، وتكتشف عند وصولها إلى شقّتها بأنّها أضاعت مفتاحها، فتقوم بكسر زجاج النّافذة كي تتمكّن من الدخول، فتجرح يديها وتدمي رأسها، لكنّها لا تأبه لما ألمّ بها، فالألم يشقّ صدر النور ويرفرف مثل ذبابةٍ حمقاء في فضاء حياتها.

 

تنتقل بنا الكاتبة إلى شخصيّة أخرى وهي ميريام التي تعيش في كابينة زورقٍ على ضفاف البحر، ويخطر لها وهي تقوم بالتجوال بأن تخطر جارها الذي يقطن في زورقٍ مجاورٍ لها بأن لا يخالف قواعد المكان، لأنّه بقي راسياً أكثر من المدّة المسموح له بها. تجد بابه مفتوحاً فتدلف منه لتجده جثّة هامدة والدماء تقطر من جسده ورأسه. فيأخذها الهلع وتهرع مغادرةً المكان وقد وجدت في المكان مفتاح لورا الفتاة التي تعمل في المصبغة والتي تعرفها جيّداً، فتدسّه في صدرها خلسة، لأنّها خافت أن تكون الفتاة متورّطة بشكلٍ ما في الجريمة.

 

تحضر الشرطة وتبدأ بالتحقيق، وتعثر على بقايا أشياء تعود للورا، ممّا يزيدها اقتناعاً بأنّ الدلائل تشير إليها، ولكنّها تبدأ بالتحقيق مع خالة القتيل كارلا وزوجها الكاتب البوليسي ثيو. تبدي كارلا حزناً وارتباكاً واضحاً، كذلك زوجها الذي تعيش معه رغم طلاقهما بسبب حبّهما الجارف لبعضهما بعضاً، ويدلي ثيو بملاحظةٍ مهمّة، وهي أنّه رأى لورا من شرفة منزله المشرف على البحر جهة الزوارق الراسية، في صبيحة مقتل دانييل وهي تغادر زورقه وهي غاضبة تمشي وكأنّها تعاني من الحمى.

 

توجّه الشرطة أصابع الاتّهام للورا ولكنّها تطلق سراحها مؤقّتاً لجمع المزيد من الأدلّة، تحاول لورا أن تطلب مساعدة أمّها وأبيها عبر الهاتف ولكنّهما يخذلانها كعادتهما. لم تجد في أزمتها سوى المرأة العجوز ايرين التي تقوم بالتبضّع لها وشراء حاجيّاتها مقابل مبلغٍ زهيدٍ من المال.

 

تقطن ايرين في البيت المجاور لمنزل أنجيلا والدة دانييل وشقيقة كارلا التي كانت صديقتها المقرّبة، ولكنّها تقضي نحبها قبل وفاة ابنها بأسبوعين بسبب وقوعها عن سلالم المنزل، لأنّها كانت في حالةٍ من السكر الدائم. تحوم الشبهات فوق رأس الجميع، خاصّة بعد أن يدوي نفير الأجراس عبر الشعاب السالكة للحقيقة المرّة، التي يتضّح فيها بأنَّ كارلا خالة القتيل وزوجها قد فقدا طفلهما صغيراً بعد أن سافرا وتركاه في عهدة أنجيلا وطفلها دانييل، ولكنّها تنسى باب المكتبة مفتوحاً أثناء المساء، ليقوم الطفل بالزحف إلى باب الشرفة ومن ثمّ يسقط ويلقى نحبه.

 

تشكّل هذه الحادثة نقطة تصادم حادّة في منعطف علاقة كارلا وثيو بأنجيلا، وتأخذهم إلى قلب المهاوي الحافلة بالسخط والآلام، فتزيد أنجيلا إدمانها على الكحول بسبب عقدة الذنب التي تلامها تّجاه ابن شقيقتها، وتتّجه كارلا إلى حدود القطيعة معها، ولكنّها تزورها بعد فترة طويلة دون أن تنسى بأنّ التحامهما كشقيقتين بات على معابر الهاوية، وأنّ الاحتفال التكريسيّ بالأخوّة المزعومة بات أمراً واهياً.

 

بعد وفاة دانييل، تكتشف كارلا دفتر رسومات دانييل التي احتفظ بها، وتقرأ اعترافه من خلالها بقتل طفلها عن قصد حتّى لا يسرق منه الاهتمام، وتكتشف بأنّه هو من فتح له الباب ومن رصد تحرّكاته حتّى سقط من الشرفة، ولكنّه أسند الاتّهام لأمّه أنجيلا التي تحمّلت إثم ابنها وتكتّمت على الأمر.

 

انجرافاتٌ من الصقيع تغلّف قلوب الجميع، إيرين الجارة العجوز تحاول تقصّي الحقيقة كي تبعد شبح التهمة عن المسكينة لورا، وحتّى ميريام المرأة التي اكتشفت الجريمة، يتوضّح في ما بعد بأنّ ثيو قد سرق منها قصّتها الشخصيّة التي حاولت عرضها عليه كي تنشرها بعد أن مرّت بظروفٍ صعبة مع صديقتها حيث اختطفهما شابٌ يعاني من المرض النفسي وقام بقتل رفيقتها، وهربت من المكان قبل أن يرصدها بسلاحه. وقد كان من مصلحة ميريام أن توجّه الشرطة أصابع الاتّهام إلى ثيو كي تلحقَ به الفضيحة وتنتقم منه بعد أن حطّم آمالها وأحلامها.

 

يلتهبُ الحدثُ وينتحبُ بأوجاع الشخصيّات المتتالية في الرواية، ولكنّ النهاية تكون مخيّبة للآمال ومتوقّعة، فكارلا هي من قامت بقتل ابن أختها دانييل بعد أن تيقّنت بأنّه هو المسؤول عن قتل طفلها، والمتسبّب في جفوتها لشقيقتها وهجرها لزوجها بعد أن تصدّع زواجهما بسبب ما حدث.

 

تطالعنا بولا هوكنز في رواية «على نار هادئة» بأصدافٍ نفيسةٍ من عقدٍ نفسيّة تزمجرُ وتتصاعدُ من قلوبٍ معذّبة، ولكنّها تنهي الرواية وكأنّها بدأتها لتوّها بخاتمةٍ تنصّ على أنّ الأمّ انتقمت لطفلها الذي هوى من الشرفة فهوت بسلاحها على رأس قاتله، ففشلت بأن تبلغ الرصيف المسحوق بجليد المتنزّهين عليه، فلم تضف إلى عالم السيكولوجيا النفسيّة للجريمة عناصر جذّابة شيّقة، بل قدّمت رواية مكرّرة لها بداية ونهاية واحدة.

theme::common.loader_icon