وجه مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، رسالة عيد الميلاد لعام 2025، بعنوان "الإله العجيب... رئيس السلام"، تناول فيها الأوضاع العامّة في لبنان وبلاد الشرق الأوسط والعالم وجاء فيها:
"في قلب رسالة الميلاد، ميلاد الإله العجيب، رئيس السلام، لا يمكننا إلا أن نقرأ علامات الأزمنة بعيون الإيمان والمسؤولية الوطنية، فالتجسُّد الإلهي ليس حدثاً روحياً معزولاً عن واقع الشعوب والأوطان، بل هو نداء ودعوة لتحويل الإيمان إلى مسؤولية، والرجاء إلى فعل، والسلام إلى مشروع وطني وإنساني قائم على الحقيقة والمحبّة والعدالة والكرامة الإنسانية.
في لبنان، وطن الرسالة والعيش المشترَك، والذي يقف اليوم عند مفترَق تاريخي بالغ الدقّة، تبرز أهمّية إعادة انتظام الحياة السياسية التي تبدأ حكماً باحترام الإستحقاقات الدستورية، وفي مقدّمتها إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها دون تأجيل أو تسويف، باعتبارها حقّاً مقدّساً للشعب ووسيلةً سلميةً للتغيير والمحاسبة. ويكتسب هذا الإستحقاق بُعداً وطنياً أشمل مع ضرورة ضمان المشاركة الكاملة للبنانيين المقيمين والمنتشرين، وعدم حرمانهم من حقّهم بالتصويت للنواب في دوائرهم الإنتخابية، كونهم جزءاً لا يتجزّأ من الكيان الوطني.
وفي ظلّ التحدّيات الإقليمية، يبقى الحوار الوطني الصادق والمسؤول السبيل الوحيد لتحصين السلم الأهلي وتجنيب لبنان ويلات حرب جديدة مع إسرائيل، حرب ستكون نتائجها مدمِّرة على البشر والحجر. ومن هذا المنطلق، نؤكّد على أنّه لا استقرار ولا سيادة من دون دولة واحدة وسلطة شرعية واحدة، يكون فيها السلاح محصوراً بيد المؤسَّسات الشرعية اللبنانية، صوناً للأمن وحمايةً للكيان اللبناني، بهدف إحلال السلام الشامل والكامل على الأراضي اللبنانية كافّةً.
وفي سوريا التي عانت الكثير من جراء الحرب والدمار والتهجير، تلوح اليوم فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة. إنّنا نحثّ مكوِّنات الشعب السوري كافّةً على التعاون وتضافُر الجهود ورصّ الصفوف للنهوض ببلدهم، بروح الشراكة والمصالحة، وإعلاء صوت التسامح والمحبّة فوق أيّة مصالح خاصّة أو آنية، لأنّ هذا وحده يشكّل المدخل الحقيقي للعودة بالوطن إلى نهضة آمنة ومزدهرة، وترميم نسيجه الإجتماعي، وبناء مستقبل يطوي صفحة العنف والإنقسام، ويؤسِّس لدولة تحترم كرامة مواطنيها وحقوقهم، وتستعيد دورها الطبيعي في محيطها العربي والإقليمي، ونذكِّر المسؤولين بأنّ المكوِّن المسيحي أصيلٌ في سوريا منذ نشأتها.
وفي العراق، فإنّ تثبيت الإستقرار السياسي والأمني يشكِّل أولوية قصوى بعد سنوات طويلة من الاضطراب والعنف. فهذا الوطن لا ينهض إلا بتثبيت دولة القانون والمؤسَّسات، وبضمان المشاركة الكاملة لجميع مكوِّناته التاريخية، ومن ضمنها المسيحيون الذين هم مكوِّن مؤسِّس في بلاد الرافدين. وإنّ صون وجودهم في بلدهم، بما يحمله من عمق حضاري وروحي وثقافي، ليس شأناً فئوياً أو مطلب أقلّية، بل هو معيار أساسي لعدالة الدولة ولمستوى احترامها للتنوُّع والحرّيات، ونحن نتطلّع مع جميع العراقيين إلى تشكيل حكومة تلبّي تطلّعات المواطنين.
وفي الأراضي المقدسة، ندعو إلى السعي لإيقاف أعمال العنف، وبخاصّة في غزّة، وتسهيل إيصال المساعدات إلى المتضرّرين والمنكوبين، وبذل كلّ الجهود لإحلال السلام القائم على حلّ الدولتين اللتين تحترمان حقوق الجار، بتأمين نظام سلمي حقيقي بعيداً عن التعصُّب الديني، حفاظاً على حقّ كلّ إنسان في الحياة والعيش الكريم، إلى أيّ دين ومذهب انتمى.
وفي مصر والأردن وبلدان الخليج العربي، نعرب عن ارتياحنا لما تقوم به السلطات في هذه البلدان العزيزة في رعايتها شؤون المواطنين، وسعيها الدؤوب لتأمين الرخاء والإزدهار، وسط جوٍّ من الألفة والمودّة والتسامح.
وفي تركيا، نعبّر عن فخرنا واعتزازنا بأبنائنا الذين يتابعون تأدية الشهادة للرب في أرضهم الأمّ، رغم التحدّيات، ونثمّن غيرتهم وتعلُّقهم بكنيستهم السريانية، وعيشهم بحرّية وبمواطَنة كاملة. ولا نزال نتابع المساعي الجادّة مع الغيارى من أجل استعادة مقرّ بطريركيتنا التاريخي في مدينة ماردين.
ويطيب لنا أن نتوجّه بالمحبّة الأبوية الخالصة إلى أبنائنا وبناتنا في بلدان الإنتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، مشيدين بالجهود التي يبذلها رعاتهم المباشرون في سبيل تأمين الخدمة الكنسية الواجبة لهم، ونثني على تمسُّكهم بإيمانهم بالرب يسوع، والتزامهم بكنيستهم السريانية. ونحثّهم على العيش بمقتضى المبادئ والقِيَم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم في بلاد نشأتهم في الشرق، ونشجّعهم على زرع بذور التربية المسيحية الصالحة في أولادهم وعائلاتهم، مع الحرص على قدسية العائلة، والإخلاص لأوطانهم الجديدة التي احتضنَتْهم ووفّرت لهم سُبُل الحياة الكريمة بروح الحرّية والإنفتاح. كما نحثّهم على القيام بأعمالٍ ومبادرات محبّةٍ يمليها عليهم حسّهم الأخوي وانتماؤهم العائلي والكنسي، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التحدّيات، وتزداد الحاجات المادّية، متذكّرين ما جاء في سفر أعمال الرسل: "فعزمَ التلاميذ أن يُرسلوا حسبما يتيسّرُ لكلّ واحدٍ منهم، إسعافاً للإخوة المُقيمين في اليهودية" (أع 11: 29).
كما نرفع صلاتنا إلى الرب يسوع، الإله المولود عجباً في مذود بيت لحم، من أجل انتهاء الحروب وأعمال العنف في مختلف أنحاء العالم، ولا سيّما الحرب بين أوكرانيا وروسيا، ومن أجل السعي الدائم إلى حلّ النزاعات والصراعات بالحوار والتفاوض والوسائل السلميّة.
ونجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين
والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.
لا نزال نعيش في غمرة أفراح الزيارة الرسولية والرسمية التاريخية التي قام بها قداسة البابا لاون الرابع عشر إلى تركيا ولبنان، وهي الأولى لقداسته منذ انتخابه حبراً أعظم في الثامن من أيّار الماضي، مستذكرين بفرح وامتنان المحطّات المتنوّعة لهذه الزيارة، والتي حملت عميق الأثر والإرتياح في قلوب المؤمنين ونفوسهم، بل لدى جميع المواطنين في البلدين. فقد عزّزت الحضور المسيحي في أرض الآباء والأجداد في الشرق، وساهمت في زرع بذور السلام وتثبيت الطمأنينة والإستقرار، حفاظاً على كرامة الإنسان في هذا الشرق، ودعوةً ملحّةً للعمل الجادّ على إنهاء أعمال العنف والحروب وإحلال السلام والأمان. فشكراً لقداسته على هذه البركة والنعمة، بل هذه العطيّة التي لا يُعبَّر عنها، وشكراً للمسؤولين في الدولة في البلدين لتعاوُنهم وتضافُر جهودهم مع الكنيسة كي تأتي هذه الزيارة بالثمار المرجوَّة، لما يؤول إلى خير الكنيسة والمؤمنين، بل عموم المواطنين في منطقة الشرق الأوسط برمّتها.
وتتزامن هذه الزيارة المبارَكة مع ذكرى مرور 1700 سنة على انعقاد مجمع نيقية المنعقد عام 325، حيث اجتمع آباء الكنيسة من كلّ مكان، وثبّتوا الإيمان بألوهية الرب يسوع ومساواته لله الآب، وأقرّوا أول إعلان للإيمان المسيحي، ممّا يشكّل دعوة ملحّة للسعي الحثيث إلى الوحدة المنظورة للمسيحيين، على تنوُّع مذاهبهم، عملاً بوصيّة الرب يسوع أن يكون تلاميذه بأجمعهم واحداً، فيحيوا التلمذة الحقيقية له، بالمحبّة والأخوّة.
ومع عيد ميلاد الرب، نختتم يوبيل سنة الرجاء التي كان قد أعلنها المثلَّث الرحمات البابا فرنسيس، بعنوان "الرجاء لا يخيِّب"، وفيها عشنا الرجاء، فوق كلّ رجاء، وسِرنا مع الرب كحجَّاج رجاء، واثقين بوعده بأنّه لن يتركنا أبداً، بل سيبقى وسط كنيسته، يقودها بقدرته، ويعبر بها من ظلمات عالمنا ومآسيه إلى نور الحياة معه.
وفي كلمته الروحية، تحدّث غبطته عن ميلاد الإله العجيب، رئيس السلام، أعجوبة الإيمان في سموّ التواضع، هذا الميلاد الذي يمنحنا البنوّة الإلهية، مؤكّداً أنّ عمانوئيل هو "حضور" يرفع لا يلغي، وهو ومانح الرجاء الذي لا ينتهي ولا يخيِّب، لافتاً إلى أنّ سلام المسيح المولود طفلاً إلهياً في مذود بيت لحم هو سلام محرِّر. "فما أسعدنا حين نقبل بشرى ميلاد مخلّصنا، فلنفتح قلوبنا اليوم للمسيح الطفل المولود، ولنسمح له أن يولَد من جديد في قلوبـنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا وأوطاننا، فيحوِّل حياتنا إلى شهادةٍ حيّةٍ للبنوَّة والمحبَّة، ويعلِّمَنا أن نسير معه على دروب السلام"، منوِّهاً بأنّ الميلاد هو زمن الرجاء والسلام وعيد الفرح، وأنّ يسوع المسيح هو رجاؤنا الأزلي، ومتوجّهاً بالتهنئة إلى المسيحيين والعالم بعيد الميلاد المجيد وبحلول العام الجديد".