المادة 95 من الدستور اللبناني: النصّ والجدوى والفاعلية في التطبيق
طوني عطاالله
Friday, 19-Dec-2025 07:55

نصَّ الدستور اللبناني، المُعدَّل وفقاً لميثاق الطائف، على مسألة الطائفية، واضعاً إطاراً دستورياً في المادة 95 منه. إنّ تطبيق أي قاعدة دستورية لا يستقيم في ظل دولة واقعة تحت الاحتلال. وتضمّن الدستور الفرنسي (1946) أحكاماً تمنع تعديل الدستور في ظل ظروف إستثنائية مثل الاحتلال الأجنبي. في لبنان طُبِّقت هذه القاعدة بفعل الأمر الواقع لانتفاء النص الدستوري المانع De facto non de jure.

إنّ مصطلح «طائفية» أو «طائفية سياسية» أو «سياسة طائفية» ليس مصطلحاً علمياً، وليس له أي مدلول حقوقي على رغم من النصّ الوارد في الدستور اللبناني. إنّها كلمة شعبوية مستعملة وشائعة في التداول. البديل العلمي لها هو نظرية التعدُّدية الحقوقية، قاعدة التمييز الإيجابي، والإدارة الذاتية الحصرية، في العلم الدستوري المقارن. ما يهمّنا هو كيف استُخدِمت هذه المادة، وكيف يمكن أن تُستخدَم؟

 

استُخدِمت المادة 95 من الدستور اللبناني، في مراحل سابقة، كأداة تهديد تُشهَر في وجه المطالبين باستكمال تنفيذ بنود وثيقة الوفاق الوطني، ولا سيما الداعين إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، عبر التلويح بتطبيقها فوراً في حال استمرارهم بالمطالبة! وقد شُهِرت هذه المادة مراراً في مواجهة البطريرك الماروني، والاجتماعات الشهرية للمطارنة، وبياناتهم الداعية إلى إنهاء الاحتلال.

 

تنص المادة 95 على الآتي: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيِّين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.

 

مهمّة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية، وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. وفي المرحلة الانتقالية:

 

أ - تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.

ب - تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة، وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادلها، على أن تكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيِّين والمسلمين من دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة، مع التقيُّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة».

 

الشروط الثلاثة الدستورية لإلغاء الطائفية

لم يأتِ إلغاء الطائفية في المادة 95 كشعار عام أو إعلان نوايا، بل كهدف ربطه الدستور بثلاثة عناصر متلازمة:

 

إنشاء هيئة وطنية: تنصّ المادة 95 صراحة على استحداث هيئة وطنية تضمّ شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية مشهوداً لها بالكفاءة والنزاهة، تتولّى حصرياً مهمّة دراسة واقتراح الخطط والآليات.

وضع خطة وتقديم اقتراحات: حَصَر الدستور مهمّة الهيئة بإعداد خطة وتقديم اقتراحات عملية إلى السلطتَين التشريعية والتنفيذية.

اعتماد التدرُّج في التطبيق: لم ينصّ الدستور على إلغاء فجائي أو صدامي أو فوري، بل على مسار مرحلي متدرّج يراعي الاستقرار السياسي والتوازن الوطني والاجتماعي، ويحول دون الفراغ أو الهيمنة أو منطق الغالب والمغلوب.

 

نظام المجلسَين في التجربة المقارنة

 

يكتسب النقاش حول إنشاء مجلس شيوخ في لبنان بُعداً دستورياً، لا تنظيمياً فحسب، خصوصاً أنّ الدستور نفسه ربط بين «الطائفية» واستحداث مجلس شيوخ. تُظهر التجربة البرلمانية المقارنة معطيات بالغة الدلالة:

 

ارتفع عدد الدول التي تعتمد نظام المجلسين (ثنائية الغرفة Bicaméralisme) من 45 دولة عام 1970 إلى نحو 81 دولة راهناً.

والأهم أنّ نحو 60% من هذه الأنظمة قائمة في دول بسيطة (غير فدرالية)، أي في دول لا تقوم على تركيب اتحادي، ما يناقض الفكرة الشائعة القائلة إنّ نظام المجلسَين حِكر على الدول المركّبة أو الفدرالية.

 

وتُبيِّن هذه التجارب أنّ مجلس الشيوخ لم يعُد مجرّد أداة لتمثيل متساوٍ بين الأقاليم (مساواة في التمثيل بين الأقاليم الكبرى والأقاليم الصغرى) أو بين المجموعات العرقية واللغوية والإتنية والدينية (مساواة تامة بغضّ النظر عن الحجم الديمغرافي للمجموعة)، بل بات وسيلة دستورية لتحسين التمثيل، وتعميق النقاش التشريعي، والحدّ من تسرّع السلطة النيابية المنتخبة مباشرة، فضلاً عن تعزيز الوظيفة الرقابية، الغائبة عملياً عن الممارسة في لبنان، لا عن نص الدستور.

 

الأسئلة الإشكالية في الحالة اللبنانية

 

انطلاقاً من المادة 95، ومن التجربة المقارنة لنظام المجلسَين، يفرض النقاش اللبناني طرح الأسئلة الآتية بوضوح ومسؤولية ومحاولة الإجابة عنها:

 

على صعيد المبررات: هل توجد في لبنان فئات أو مكوّنات معزولة بصورة دائمة عن التمثيل الفعلي، ومحرومة من المشاركة وإيصال صوتها، بما يستدعي آلية مؤسساتية تكميلية يمكن لمجلس الشيوخ أن يساهم عبرها في تحسين التمثيل ورفد العمل البرلماني بطاقة غير مستثمرة؟

 

على صعيد الفوائد المرجوّة: هل يؤمِّن نظام المجلسَين تشريعات أكثر توازناً وجودة، من خلال القراءة الثانية المعمّقة للقوانين والحدّ من التشريع المتسرّع؟ أي هل إنّ البرلمان المؤلّف من مجلسَين يسنّ قوانين أفضل ويمارس رقابة ومحاسبة أكثر نجاعة؟

 

على الصعيد المالي: هل تُشكِّل رواتب وتعويضات أعضاء مجلس الشيوخ عبئاً إضافياً على الخزينة العامة المعروفة أوضاعها الصعبة، أم يُستخدَم هذا الاعتراض ذريعة لتفادي تنفيذ استحقاق دستوري؟

 

على الصعيد الدستوري: هل من الضروري، في الحالة اللبنانية تحديداً وفي الظروف الراهنة، تطبيق المواد الدستورية المتعلّقة بإنشاء مجلس شيوخ فوراً، باعتباره جزءاً لا يتجزّأ من استكمال تنفيذ اتفاق الطائف، لا خياراً سياسياً انتقائياً؟

 

على الصعيد المقارن: هل ينبغي للبنان أن يساير «موضة» رائجة في اعتماد نظام المجلسَين، أم أنّ خصوصيّته الدستورية هي التي تفرض هذا الخيار؟

 

إنّ الإشكالية في لبنان ليست في نصوص الدستور، بل في التعطيل والتطبيق الانتقائي. فالمادة 95 لم تُعلّق قضية «الطائفية» على توافق سياسي مفتوح، بل حدّدته بمسار مؤسساتي واضح يبدأ بهيئة وطنية، ويمرّ بخطة متدرّجة، ويُستكمل بإنشاء مجلس شيوخ. وقد يكون مسار الهيئة مشابهاً لما تعتمده دول عديدة من آليات مؤسساتية لبلورة اقتراحات تهدف إلى تطوير أنظمتها السياسية.

 

من هنا، فإنّ النقاش حول مجلس الشيوخ الذي افتتحه وزير العدل عادل نصار في وزارته بالتعاون مع المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم في 12/12/2025 في حضور نواب وخبراء ودستوريِّين، ليس نقاشاً إضافياً أو ترفاً دستورياً، بل ورشة وطنية واختباراً جدِّياً لسبل الانتقال من نظام مغلق أو جامد أو مجمّد إلى دولة دستورية مكتملة.

الأكثر قراءة