توم برّاك بين «سوريا الكبرى» و«إسرائيل الكبرى»
طوني عيسى
Tuesday, 09-Dec-2025 07:44

بديهي أن يتعرّض الموفد الأميركي توم برّاك لهجمات «حزب الله». ففي نظر «الحزب» هو المندوب السامي الأميركي، خادم مصالح إسرائيل. وأما أن يتسبب برّاك باستفزاز خصوم «حزب الله»، المتمسكين بخيارهم اللبناني، ولا سيما المسيحيين، فهذا أمرٌ مثير. ومن سخريات الأقدار أنّ «الحزب» يتهم برّاك وأركان إدارته بأنّهم يساهمون مع إسرائيل في تحقيق طموحها إلى «إسرائيل الكبرى»، فيما الآخرون مستاؤون من إطلاقه «الرسائل السامة»، بين حين وآخر، خدمةً لطموح البعض إلى «سوريا الكبرى».

من هو هذا الـ«توم برّاك»؟ لا يعرف غالبية اللبنانيين عن هذا الرجل سوى أنّه من أصل «زحلاوي». في البداية استبشروا خيراً بأنّه يجب أن يكون لبنانياً بالفطرة، يسري «العَرَق واليانسون» في دمه، ويحتّمان عليه طباعاً لبنانية، فيها كثير من العاطفة واللياقات الاجتماعية والعفوية. لكن الرجل ظهر بطباع مختلفة تماماً، فيها براغماتية أو ماكيافيلية خشنة. وفي كل يوم، يفاجئ الجمهور اللبناني بموقف صادم، غالباً ما يشكّل نقيضاً لموقف كان أعلنه سابقاً.

 

في أي حال، توم برّاك المثير للجدل في لبنان والشرق الأوسط يشبه كثيراً دونالد ترامب المثير للجدل في الولايات المتحدة والعالم. وهذا الشبه ليس مستغرباً بين الرجلين اللذين يرتبطان بعلاقة استثمارات وصداقة منذ عشرات السنين، حتى يبدو الواحد منهما وكأنّه نسخة عن الآخر.

 

العارفون في الشأن الأميركي يقولون: ليس كل ما يقوله برّاك يجب أن يؤخذ على محمل الجدّ. فالرجل يستطرد كثيراً ويجتهد ويُطلق الأحكام خارج دائرة الموقف الأميركي الرسمي. وللتأكيد على ذلك، مورغان أورتاغوس لا تشاركه هذه المواصفات. وأما السفير ميشال عيسى، فبدا من اللحظة الأولى لمجيئه إلى لبنان حاملاً مواصفات مناقضة لـ«مُواطنه» اللبناني برّاك. وأمس عندما سُئل عيسى عن موقف الإدارة الأميركية الحقيقي، تعليقاً على دعوة برّاك إلى ضمّ لبنان وسوريا، قال للصحافيين: «لا شيء في هذا القول يستأهل التوقف عنده. وعندما يكون هناك شيء جدّي في هذا الخصوص، سأخبركم عنه!».

 

برّاك الذي يشغل رسمياً منصب سفير في تركيا وموفد إلى سوريا ولبنان، أطلق كثيراً من القنابل في خلال الفترة التي عمل فيها. قال للبنانيين مثلاً: «إذا لم تدخلوا في الحل فسيذوب لبنان في بلاد الشام». وأعلن قبل يومين تشجيعه «اندماج لبنان وسوريا». وأضاف: «الغربيون يتمادون في الخطأ في الشرق الأوسط منذ إعلان سايكس- بيكو». ولكنه في أماكن أخرى كثيرة، بدا حريصاً على كيان لبنان ومؤيّداً لاستمراره. وهذا التناقض غير مفهوم، عدا عن أنّه يوقع في الالتباس: هل هذا موقفه الشخصي أم موقف واشنطن؟

 

في مكان آخر، يقول برّاك إنّ لا حل في لبنان إلاّ بنزع سلاح «حزب الله» بكامله. لكنه قال قبل يومين: «لا ضرورة لنزع السلاح. المهمّ منع «الحزب» من استخدامه». وفي أماكن أخرى، بدا الرجل متفهماً لموقف الحكومة اللبنانية في مسألة المفاوضات، ثم بدا مهدّداً ومتوعداً. وذات يوم، أطلق برّاك موقفاً صادماً حول مزارع شبعا، إذ قال: «رأيتها. كنت أظنها أرضاً ذات قيمة، ولكن تبين لي أنّ لا قيمة لها. علامَ يطالب بها لبنان؟».

 

وفي سوريا، كان برّاك دعا إلى تفكيك المركزية الصارمة للدولة السورية، وتبنّي نظام لامركزي واسع النطاق، يمنح المناطق المختلفة (الأكراد في الشمال الشرقي، والسنّة في الشرق، والدروز في الجنوب، والمناطق العلوية في الساحل) حكماً ذاتياً واسعاً لإدارة شؤونهم المحلية (التعليم، الصحة، الأمن) من دون الانفصال الكامل عن الدولة. لكنه لاحقاً أعلن فشل الفدراليات في سوريا.

 

البعض يقول إنّ طباع برّاك «ترامبية». فرئيسه يفعل هكذا مثلاً في التعاطي مع نتنياهو، ومع إيران، ومع زيلينسكي، ومع بوتين وسواهم. فهو يمدح أحدهم في لحظة ويمنحه فرصة لإبرام التسوية، ثم يهدّده بالويل والثبور. وفي أي حال، ليس الرئيس هو صاحب القرار الاستراتيجي في واشنطن. إنّها مظلة النفوذ الكبرى العميقة أو «الدولة العميقة». ولذلك، بين جو بايدن ودونالد ترامب مثلاً، لم يتغيّر شيء كثير في سياسة واشنطن، لا في الشرق الأوسط ولا سواه.

 

برّاك هو مستثمر ورجل أعمال، وصديق ومستشار قريب لترامب، ومعروف بأسلوبه المثير للجدل. وسمعته في الأوساط الديبلوماسية لا ترتقي دائماً إلى مستوى «الرصانة» الديبلوماسية التقليدية. وغالباً ما يُعتبر صوته جزءاً من عمليات جسّ النبض وتحريك المياه الراكدة. وفي لبنان، ربما المطلوب هو إثارة النقاش حول مستقبل الكيان لاختبار ردود الفعل على سيناريوهات إقليمية جذرية محتملة.

 

تعود علاقة برّاك بترامب إلى ثمانينات القرن الفائت، وتجمعهما اهتمامات مشتركة في قطاعي العقارات والتمويل. ووصف برّاك رئيسه بأنّه «أحد أقرب أصدقائي لمدة 40 عاماً». ورأس برّاك لجنة تنصيب صديقه في العام 2017، وهي مهمّة رفيعة المستوى. ويُنظر إلى برّاك على أنّه يمثل تقاطعاً بين مصالح التجارة الدولية والسياسة الأميركية، وهو ما جعل البعض يصفه بـ»سمسار السلام» أو «رجل الظل». وهذا التداخل يجعله شخصية براغماتية تبحث عن التكتيك والصفقات أكثر من التزامها بالإيديولوجيا أو الديبلوماسية المؤسساتية التقليدية. و​لهذه الأسباب مجتمعة، يُعتبر براك «نسخة مصغّرة من ترامب» في الشؤون الخارجية، حيث يعتمد على العلاقات الشخصية ويتجاوز المؤسسات. لذلك، لا يمكن اعتبار تصريحاته تمثيلاً رصيناً وموثوقاً فيه للسياسة الأميركية الرسمية على المدى الطويل. ولذلك، على اللبنانيين أن لا يستمعوا كثيراً إلى تصريحاته وتغريداته، ليعرفوا منها رسائل واشنطن. فالسفير الجديد ميشال عيسى سيؤدي هذه المهمّة، وسيفهم الجميع ما تفكر فيه واشنطن، بين طموحات «إسرائيل الكبرى» التي باتت شبه مؤكّدة بسبب الضعف العربي، وأحلام كبرى تراود آخرين هنا وهناك في زوايا هذا الشرق.

الأكثر قراءة