... والسلامُ في القرآن هو الله
جوزف الهاشم
Friday, 05-Dec-2025 07:49

بعد انتخابه حبْراً أعظم، شاء البابا لاوون الرابع عشر، وفي أولى زياراته الخارجية، أن يختار لبنان ليحمل منه السلامَ والرجاءَ الصالح لبني البشر.

والبشر في القرن الواحد والعشرين يعيشون عصرَ التخلُّف والوثنيات، يسيرون خلف الجنائز الإلهية والحضارية والثقافية في دولٍ ترسِّمُ حدودَها بالدم.

 

أَليسَ غريباً، أنْ تكون البشريةُ قبلَ ظهور الديانات السماوية، تتمتَّعُ بقسطٍ وافرٍ من السلام وصفاءِ العيش، حتى أنّ اليونان والرومان على تعدُّدِ آلهتهم، كانوا يتحلّون بدرجة عاليةٍ من التسامح الديني منذ القرن الثالث قبل المسيح، وكان شعار سياستهم الدينية: «عِشْ أنتَ وعلى غيرك أن يعيش».

 

وكيف يمكن مع الرسالات السماوية، وخلال قرنَين بعد المسيح أنْ يصبح شعار السياسة الدينية: عِشْ أنتَ وعلى غيرك أن يموت.

 

كيف يفهم المسيحيّون قولَ المسيح: «سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم»(1).

وكيف يفهم المسلمون أنّ لفظة الإسلام مأخوذةٌ من السلام؟

«السلام في القرآن، هو الله...»(2)

«وأبناء الله في الإنجيل هم فاعلو السلام»(3)

خسىء الذين قالوا إنّهم أبناء الله المختار، وكأنّهم يجعلون من الله أباً وثنياً لهم، وإلهاً يرتكب معهم المجازر من سماء المسيّرات.

 

وماذا بعد؟ هل سيظلّ المسيحيّون في هذا الشرق يعانون أقسى ألوان الإضطهاد، على ما كان في العصر الفارسي والعربي والعثماني، مثلما لم يكن الصراع المسيحي في الغرب بين البروتستانت والكاثوليك أكثرَ رحمةً ورأفة؟

 

وهل سيظلّ الصراعُ في الإسلام ضدّ الآخر وضدّ الذات، بما وصَفهُ المفكّر السياسي الأميركي: «صموئيل هنتنغتون»، في كتابه «صراع الحضارات» بأنّ «حدود الإسلام هي حدودٌ دموية»؟

 

وهل ستستمرّ الحروب التاريخية ضدّ السلام الذي هو الله، منذ أن بدأت بين الإغريق وداريوس الفارسي، واستمرَّت بين البيزنطيِّين والمسلمين، وبين البابا والأمبراطور، والخليفة والخليفة، وبين السلطان والسلطان يتذابحان وراثياً لاحتكار حكم السلطنة؟

 

وحَـده، هذا الأنموذج الفريد الذي اسمه لبنان، يُحقق الخلاص الأممي من صراع الأديان والمذاهب والأعراق، لو أنّنا عرفنا كيف نحافظ عليه رسالةَ حضارةٍ وسلامٍ لنا، وللعالمين.

لعلنا نستيقظ أخيراً بفعل صفْعتَين: صفعة الدم على يَد الحرب، وصفعة السلام على يَد البابا.

 

لم يجتمع اللبنانيّون متضامنين: لا تحت سقف الدستور، ولا تحت سقف الحرب، ولا تحت سقف السلم، مثلما اجتمعوا متضامنين تحت سقف السلام البابوي.

 

هذه الظاهرة اللبنانية الرائعة التي انطلقت باستقبال حاشد من الضاحية الجنوبية، وكشافة المهدي إلى مقام القديس شربل في عنايا، تجسّد حقيقة الواقع الشعبي المعيوش، خلافاً للواقع السياسي المنشطر.

 

وخلافاً للقراءة السطحية لخطاب البابا في القصر الجمهوري ودقَّةِ مضمونِه، لقد استطاع البابا أن يُعبّر عن مختلف التوجّهات اللبنانية لدى المسيحيِّين، والمسلمين والمسؤولين، وتحديداً الجنوبيِّين، إذاً إقرأوا معي قولَهُ: «أنتم شعبٌ لا يستسلم، يقف أمام الصعاب بشجاعة، صمودُكم علامةٌ مميّزة، والإلتزام بالسلام لا يعرف الخوف والإنهزام».

 

بهذَين السطرين إِختصر المشكلات، واقترح العلاجات، وأوصى مَنْ يتحمّلون المسؤولية بأن يضعوا أنفسهم في خدمة الشعب، ولا ينفصلوا عنه».

 

لعلّ هذا اللقاء الحميم الذي جمع رؤساء الطوائف مع البابا يشكّل مجْمَعاً وطنياً يستوحي إله القرآن والإنجيل، بما عبّر عنه الإرشاد الرسولي «بأنَّ الذي بنى جداراً بينه وبين الآخر سوف يعيش هو خلف الجدار».

 

وبما عبّرتْ عنه «وثيقة الأخوَّة الإنسانية» الموقّعة من البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب، «بأنّ الأديان لم تكن بريداً للحروب».

 

وبوحيٍ من الآية التي أطلقها الإمام علي بن أبي طالب والتي اعتمدتها الأمم المتحدة، رسالةَ وحدةٍ عالمية بأنّ «الناس صنفان: إمّا أخٌ لكَ في الدين، وإمّا نظيرٌ لكَ في الخَلْق».

 

لعلّ هذا اللقاء الروحي الجامع، تُشكّلُ فيه الكلمةُ السواءُ ابتهالاً إلى الله، لأنّه لم يَعُد لنا من أمل إلّا الإستنجاد بأهل السماء خلاصاً من شرّ أهل الأرض.

 

1- يوحنا: 14-27 / 2- سورة الحشر القرآنية: 23 / 3- متى: 5-9

الأكثر قراءة