في أطروحته الـ11 حول الفيلسوف لودفيغ فويرباخ، يقول كارل ماركس: «الفلاسفة لم يفعلوا شيئاً سوى تفسير العالم بطرق شتى، لكنّ الأهم يظل هو تغييره». ويعقّب سلافوي جيجيك قائلاً: «لكن، هل فعلاً اقتصر الفلاسفة، قبل ماركس، على تفسير العالم فحسب؟ ألم يسعوا أيضاً إلى تغييره بشكل جذري بداية من أفلاطون، الذي سافر إلى جزيرة سيركوسا من أجل إقناع الطاغية دنيسيوس بتطبيق الإصلاحات التي اقترحها عليه؟».
من ضمن كل الفلاسفة، ربما يظل هيغل هو الوحيد الذي اقتصر على التأمّل المحض، الوحيد الذي أهمل كل مشروع مستقبلي وعكف على وصف الحاضر كما هو. ومن المفارقات، أن يكون ذلك سبباً في جعل فلسفته نقطة بداية لمحاولات تغيير العالم الأكثر راديكالية.
الطغيان لا يهبط فجأة؛ بل يُصنَع بهدوء عبر سلسلة تنازلات يومية يُقدّمها الناس. في كتابه حول الطغيان: «عشرون درساً من القرن العشرين» قدّم لنا المؤرّخ الأميركي تيموثي سنايدر دروساً سياسية وأخلاقية مستخلصة من التجارب القاسية التي عرفها القرن الـ20 - صعود الفاشية، النازية، الشموليات الستالينية والأحزاب الشمولية ذات اللون الواحد - ليذكّر أنّ الديمقراطية ليست ضمانة ثابتة، بل هي نظام قابل للانهيار إذا تراخى المواطنون، أو ضعف المجتمع المدني، أو أستولى الطغاة والحزب الواحد على المخيّلة العامة.
قدّم لنا وللعالم، وخصوصاً تلك البلدان التي يحكمها طغاة ومستبدّون أصحاب نظرية الحزب الواحد الأوحد الشمولية جوهر/مضمون إحياء حسّ اليقظة المدنية، وجعل المواطن فاعلاً في حماية الحرّية، من خلال تحويل الخبرة التاريخية إلى قواعد عملية قابلة للتطبيق في الحياة اليومية.
كتب سنايدر لنا وللمجتمعات المصادَرة بقوّة الأوبئة والأمراض المعدية في العالم الثالث والأنظمة الشمولية/ وصفة طبية «لعلاج طبيعي» وأدوية ضرورية تقول: إنّ تجاهل التاريخ يسمح للطغيان بأن يعود بأشكال جديدة. ويرفض فكرة الاستثناء كيفما كانت وأينما كانت، مؤكّداً أنّ الظلم السياسي يمكن أن يتكرّر في أي مجتمع إذا غابت الذاكرة الفردية والجماعية، ومات الحسّ النقدي ووعي الضرورة - ضرورة الوعي.
نعم، لا تعطوا الطاعة مسبقاً، الطغيان يبدأ من لحظة الطاعة الصامتة قبل أن تُطلب. يدعو المؤلّف المواطنين إلى مقاومة المَيل الطبيعي إلى الإمتثال للمستبدّين، لأنّ كل نظام سلطَوي يبدأ بخطوات صغيرة يمرّرها الناس بدافع الطمأنينة أو الكسل السياسي.
دافعوا عن المؤسسات - المؤسسات الديمقراطية لا تنهار دفعة واحدة، بل تتآكل بالتدريج. ولا تنسوا أنّ حماية القضاء، الصحافة، البرلمان، والجمعيات المستقلة شرط لبقاء السيادة والحرّية.
إحذروا من دولة الحزب الواحد دوماً ودائماً. التعدّدية عنصر أساسي للحياة السياسية. ويُشير المؤرّخ سنايدر إلى أنّ الأنظمة الشمولية بدأت عندما احتكر حزب واحد المجال العام، فألغى البدائل السياسية التي تحمي المجتمع.
تذكّروا أنّ المواطن مسؤول عن مصادر معرفته. يُذكّر سنايدر بأنّ الدعاية السياسية لا تعمل إلّا عندما يتخلّى الفرد عن التفكير النقدي ويستهلك المعلومات بصورة سلبية.
تذكّروا أخلاقيات المهنة لأنّ الطغيان يتعزّز عندما ينسى القضاة، والأطباء، والصحافيّون، والموظفون مهنيّتهم. ويُشدّد المؤلف على دور الضمائر المهنية بوصفها آخر خطوط الدفاع قبل انهيار الدولة القانونية.
إحذروا من القوى شبه العسكرية، الميليشيات أدوات الطغاة لزرع الخوف وإلغاء المؤسسات. ويُنبّه سنايدر إلى أنّ ظهور مجموعات مسلّحة موازية للدولة كان دائماً مؤشراً لانفراط العقد المدني.
كونوا متحوّطين إن اضطررتم إلى حمل السلاح في الفترات المضطربة، تُستغل الأسلحة لتكوين ولاءات شخصية لزعماء جدد. يدعو المؤلّف إلى الحذر من التورّط في شبكات العنف السياسي.
كونوا متميّزين وعارِضوا. الأغلبية الصامتة هي البيئة المناسبة للطغاة. إنّ أول شخص يعارض يصنع معياراً جديداً للشجاعة ويفتح الباب أمام الآخرين. كونوا لطيفين مع لغتنا لأنّ اللغة المشوّهة تسبق الطغيان دائماً. الدعاية تُغيّر المعاني، وتستخدم التبسيط، والشتائم، ونزع الإنسانية عن الخصوم.
آمنوا بالحقيقة، الاستبداد يبدأ بإلغاء الحقيقة واستبدالها بالسرديات الرسمية. يُشدّد سنايدر على أنّ حماية الحقيقة العلمية والصحافية فعل تغيّر. تحرّوا وابحثوا حيث ينبغي الرجوع إلى المصادر الجادة، وقراءة الصحافة المحترفة، وتجنّب وهم المعرفة السريعة.
التفكير المدقق هو العدو الأول للدعاية. حافظ على التواصل البصري والدردشة الخفيفة. العلاقات اليومية تبني الثقة الاجتماعية وتمنع العزلة، التي يستغلّها الطغاة للتحكّم بالجمهور. الإنسانية تُصنَع من تفاصيل صغيرة: التحية، الكلام القصير، الشعور بالوجود المشترك.
مارسوا السياسة بأجسادكم، لأنّ النشاط السياسي الحقيقي يحتاج حضوراً مادياً في الساحات والتظاهرات والاجتماعات. يرى سنايدر أنّ السياسة التي تُمارَس فقط خلف الشاشة تُسهِّل سيطرة الطغاة.
أسِّس حياة خاصة، فإنشاء مساحة شخصية خارج هيمنة الدولة الفاسدة يحمي الفرد من الرقابة. يذكّر المؤلف بأنّ الشموليات تمكّنت من السيطرة لأنّ المواطنين تخلّوا عن خصوصيّتهم. ساهم بدعم قضايا نبيلة. دعم المنظمات الحقوقية والثقافية والإنسانية ضرورة لحماية المجتمع المدني. التبرّعات والعمل التطوّعي سلاح ضدّ الثقافة الاستهلاكية اللامبالية.
تعلّموا من نظرائكم في الدول الأخرى. الديمقراطية ليست تجربة محلية، بل ظاهرة عالمية. يحثّ سنايدر على استلهام الخبرات الدولية لفهم طرق مقاومة الاستبداد.
بإصغائك للكلمات الخطيرة تُحصِّن نفسك. الكلمات ليست حيادية؛ بعضها يحمل بذور العنف السياسي. ويحذّر المؤرّخ من المفردات التي تُجرِّد البشر من إنسانيّتهم أو تُبرِّر العنف الجماعي.
كُن هادئاً حين تحلّ المصيبة. الأزمات تُستخدم ذريعة للطغيان: حالة الطوارئ، الأمن القومي، الخطر الخارجي. الهدوء النقدي يمنع استغلال الكوارث لتوسيع سلطة الدولة.
كُن مناضلاً وطنياً، فالوطنية الحقيقية تتجسّد في حماية القِيَم الديمقراطية لا في تمجيد الزعيم. يفرّق المؤلف بين الوطنية المدنية والوطنيات الاستبعادية التي تقود إلى الفاشية.
كُن شجاعاً بكل ما تستطيع. الشجاعة الفردية هي بداية كل تغيير. يرى سنايدر أنّ التاريخ يُصنع عبر أفعال شجاعة صغيرة، تراكمها يحمي الحرّية للأجيال القادمة.
أصبح كل مواطن في مواجهة مسؤولية وطنية، تبدأ من الفرد وصولاً إلى المجتمع. مسؤولية تصرخ بصيغة السؤال: «كيف نترجم تاريخ القرن الـ20 إلى دليل عملي للقرن الـ21؟ كيف علينا تبسيط الدروس السياسية المعقّدة وتحويلها إلى نصائح مباشرة لكنّها عميقة، إلى الأفراد والمجتمعات والأنظمة التي تحتاج لمنع تكرار أخطاء الإنسانية؟ إنّ الطغيان لا يهبط فجأة؛ بل يُصنع بهدوء عبر سلسلة تنازلات يومية يقدّمها الناس. والحرّية ليست هبة، بل مهارة سياسية يجب ممارستها يومياً كما يقول المثل التجريبي: practice makes perfect أي «الممارسة تؤدّي إلى الإتقان». الإتقان في وعّي الضرورة وفي ضرورة الوعي. الإتقان في وعي التغيير والحرّية!