كلُّ جمعةٍ عندنا عظيمة
جوزف الهاشم
Friday, 29-Mar-2024 07:32

... وهذه أورشليم لا تزال كما تركتَها رازحةً تحت نيـرِ الرومان، وتحت طائلةِ سخْطِ الله، وباتَتْ كمثل ما تنبَّأتَ لها حيت قلت: «ستأتي أيامٌ يُحيطُ بكِ أعداؤك، يحاصرونك من كلّ جهـةٍ، يهدمونكِ ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر...»(1)

 

ولا يزال سكانها يعانون أهوال الحصار والموت والدماء: الآباءُ والأمهاتُ والأبناءُ يتقاسمون الجـوع ويتخاطفون الخبز.

 

ولأنّ الجنون عند اليهود ليست لَـهُ حدودٌ عقليةٌ وحدودٌ جغرافية، فقد وصلت إلينا جرائمهُمْ وشرائعهم، وكان عندنا: هيرودس وبيلاطس ويهوذا، وكهَنَـةٌ وصيارفة وفرّيسيّون... وفي بيوت الصلاة لصوص.

 

حين كنتَ مصلوباً على الصليب، تحت طعْن الحراب، ووَقْع السياط، الدمُ يتقطّر من إكليل الشوك على رأسك والجبين، يداك والقدمان مثقوبةٌ بالمسامير، وقبل أن تلفظ أنفاسك الأخيرة قلت لمن صلبوك: «إغفر لهم يا أبتاه».

 

هل يغفـرُ أبوك لهم وقد جعلوه مقاتلاً دمويّاً لينتصروا بسلطة الدم والعنف، وأنت تدعو إلى الإنتصار بسلطةِ الله التي ترتكز على المحبّة والرحمة... وهو الرحمان الرحيم...؟(2)

 

وهل يغفرُ الله لليهود على ما ارتكبوا من آثامٍ ويرتكبون، وأنت «رفَعَك الله بيمينهِ مخلِّصاً لتعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا...؟»

 

وهل استطاعت المسيحية أن تحمي نفسها من أعدائها بالمحبة والرحمة، وأنت توصي المسيحيين بمحبة أعدائهم...؟

 

لأنّ الذين اجتمعوا باسمك، كلما اجتمع اثنان منهم يكون بينهما الشيطان... ولأنّ بيتكَ أكثر ما يحتاج في هذا الزمان إلى فرسان لا إلى فريّسييّن، فلا يزال الذين ينادون باسمك يتعرّضون للعيش في سراديب الموتى، خوفاً من أنّ يرميهم «نيرون» لأنياب الذئاب في ساحة روما.

 

«كونوا حكماءَ كالحيّات وبسطاء كالحمام..(3) «فكانوا كالحيّات ولا حكيم، وكالحمام ولا أجنحة.

 

لأننا يا سيّد.. «رأينا الشرَّ تحت الشمس، والحمقى يُرفَعون إلى أعلى المراتب..»(4) أصبحتْ كلُّ أيامنا جمعةً بل جمعاتٍ عظيمة، نتجرّع المـرّ، نُطعن بالحراب، نُصلَبُ على ألف جلجلةٍ وصليب.

 

مملكتُك أنت لم تكن من هذا العالم، ومملكتنا لا تزال مسمَّرةً في عالم متوحّش، معلّقةً على خشبة الإنهيارات والفراغات.

 

أنتَ رجَوْتَ أباك أن يرفع عنك تلك الكأس فرفَعك إلى السماء...

ونحن رجَوْنا أبانا أن يرفع عنّا الكأس فبشَّرنا بجهنّم...

 

عندما رفض أهلُ «الناصرة» الإيمان بك، تركتهم ونزحتَ تبشِّرُ في مكان آخـر وقلت: «ليس لنبيٍّ كرامةٌ في وطنـهِ...»(5)

ونحن بسبب نزوح الإيمان بلبنان، لم يعد لنا كرامةٌ في وطننا، وأصبحنا نازحين في وطـنٍ للنازحين.

 

ومع كلِّ هذا الشقاء والبلاء، لن نفقد الأمل بالرجاء، حيثُ «الطريق والحـقّ والحياة»، ولن نفتّشَ عن الله في المعسكرات والمعابد الطائفية وهو أكثر ما يكون على طريق الإنسانية المعذبة.

 

لا نزال نؤمن بأنّ القيمَ الإلهية لن تكون خاضعةً للقلوب المتحجرّة والأرواح الشريرة، «سأنزع من لحمكم قلبَ الحجر وأُعطيكم قلباً من لحم».(6)

 

ولا نزال نؤمن بقيامتنا وقيامتك من دون أن نضع أصابعنا في الجرح وآثار المسامير.

 

1- لوقا: 19- 42-44. 2- أعمال: 5-31. 3- متى: 10-16. 4- سفر الجامعة: 10- 5-6.

5- يوحنا: 4-44. 6- حزقيال: 36-26.

الأكثر قراءة