لا شكّ في أنّ كورونا وباء خطير ولا هوادة في تلافيه، لكن القطاع التربوي، برمّته، قد مشى وراء التعلّم عن بُعد، وكلنا قمنا بتطبيقه، ظنًا أنّها مرحلة بسيطة ستمرّ، ويمكن تعويض مفاعيلها في الأشهر أو السنين المقبلة. وبعد آخر المستجدات، يمكن توقع استمرار كورونا لسنوات متتالية، والتعلّم عن بُعد الذي اعتبرناه مرحلة، صار واقعاً وخطيراً، والتّبعات السلبية التي نجدها في التعلّم عن بُعد لا تُعدّ ولا تُحصى، خصوصاً أننا سنصل إلى الانهيار الاقتصادي التّام ابتداءً من كانون الأول، الموعد المتوقّع لرفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية، حينها، من يمكنه أن يقدّر عدد ساعات التغذية للتيار الكهربائي، أو سعر صفيحة البنزين التي ستقفز الى 75 الفاً عند أقل تقدير، ناهيك عن أسعار الأجهزة الالكترونية على أشكالها، إذ أنّ سعر الكومبيوتر المحمول تخطّى الـ4 ملايين ليرة لبنانية، كذلك أجهزة الهاتف المحمول، رغم تأكيد عدم فعاليته في العملية التعلمية، وخصوصاً في المواد العلمية.

لا تأثير وتأثّر

إنّ التعلّم عن بُعد، وضع المعلم والطالب في بوتقة المُحاضِر والمتلقي، دون تفاعل ودون تأثير او تأثر، ممّا يضع شخصية الطالب كما ومستواه العلمي والتفاعلي والإجتماعي في دائرة الخطر الشديد، إذا ما اعترفنا وبكل مهنيّة وموضوعية، أنّ حصيلة التعلّم عن بُعد لا تتعدى 15 % ممّا كان يتلقّاه المتعلّم في الصف، مع التأكيد على أنّ جهد المعلمة أو المعلم، وقد قصدت هنا استعمال هاتين العبارتين عوض استعمال المربية أو المربّي، لأنّ التعلّم عن بُعد سلخ عن المربين هذا التأثير فاقتضى التوضيح، إنّ جهدهما في التعلّم عن بُعد صار مضاعفًا، في التحضير والتنسيق وإيصال المعلومة، مع التسليم تربويًا، باستحالة التأكّد من الكفايات المطلوبة، في المادّة وفي الشخصيّة كما وفي الإمتحان.

إنّ نجاح العملية التربوية، يقوم على إيصال أفضل المعلومات بأكثر الطرق احترافيةً من قبل المربّي أولاً، وقيام الطالب بالجهد المطلوب لمواكبة التطوّر الفكري والنفسي والشخصي، الذي يريد المربّي أن ينقله إليه ثانيًا، ثم التقييم الفصلي كما والمستمر، للتأكّد من مواكبة الطالب للشرح، وفهمه كما وحفظه وتحليله للمادة المعطاة ثالثًا، والأهم، يكمن في تفاعله مع المعلومة بصورة شخصية، تحضيراً لاستعمالها في حياته المهنية والمستقبلية رابعًا، عبر التحليل والنقاش الضروريين داخل الصف وخارجه.

ماذا يحصل اليوم من خلال التعلّم عن بُعد ؟

يقوم الجسم التعليمي بإيصال المعلومة، لكن آلية محاسبة الطالب على أستيعابها وتحليلها فشبه معدومة، ناهيك عن غياب التفاعل الصفي الضروري لصقل المعلومة وتفاعل الطالب معها، كما وتفاعل المعلم أو المعلمة مع المعلومة كما ومع الطالب، فهو غائب أيضاً، دون أن ننسى أنّ أية عملية محاسبة عبر العلامة أو الإستبعاد غير ممكنة في لبنان، بسبب الحجج غير القابلة للتأكّد لدى الطالب، من ناحية انقطاع الكهرباء أو الأنترنت، أو المرض أو التمارض الخ...

إنّ آلية محاسبة الطالب على أي بوادر تسرّب دراسي خلال العملية التربوية معدومة خلال التعلّم عن بُعد، مع الإشارة إلى أنّ غياب دور الأهل في سدّ النقص الحاصل في العملية غائب دون شك لأسباب وظيفيّة أو عائلية أو ثقافية، ولأسباب متعدّدة، لكنها غائبة، مما يضعنا أمام طالب مستمع ومشاهد، لكنّه عارف سلفاً، عدم قدرة أحد على محاسبته على أي أمرٍ من شأنه أن يؤذي مستقبله العلمي، كما من شأنه أن يعرقل العملية التربوية لزملائه، مهما اتّخذنا من احتياطات الكترونية مدروسة، طبعًا باستثناء الفئة المبدعة من الطلاب، الذين لا تزيد نسبتهم عن 10% من طلاب المدارس الرسمية والخاصة، وحتى في المراحل الجامعية في لبنان.

للأسف، نحن نقوم بعملية تربوية مشوّهة وناقصة، ولن ندرك حجم فشلها قبل سنوات عدة، بعد وصول الطلاب إلى المراحل الجامعية التي ستكشف حجم الضرر الفكري والنفسي والبنيوي الذي طرأ على المستوى التربوي في لبنان. لقد جرّبنا وقد كان لنا شرف المحاولة في التعلّم عن بُعد لاستدراك العام الدراسي، ظناً أنّها مرحلة عابرة كما ذكرت، لكن الآن، وبعد أن تبيّن أنّها مرحلة طويلة ويمكن أن تستمر إلى أجَلٍ غير معروف حتى وصول اللقاحات الموعودة، علينا أن نبحث في حلول أخرى، وكلها تتطلب تضحية وجرأة، من الإدارات الرسمية والخاصة، من المربّين والمربيات، من الأهل، كما ومن الطلاب ومن كلّ الموظفين والعاملين في القطاع التربوي.

إنّ جائحة كورونا عائدة إلى لبنان، حيث أنّها لم ترحل عنه أصلاً، وفي موجات متتالية. والمفروض ان نتأقلم نحن معها لا أن تتأقلم هي معنا، ومن المعيب أن نعلن استسلامنا. لكن دعونا نبحث عن طرق جديدة للتربية في ظلّ كورونا، ضمن مسلّمات تربوية محترفة، مع الإعتراف، أنّه لا يمكن بأي شكل من الأشكال استمرار العمل بالنظام التربوي السابق، أي قبل كورونا، تمامًا مع صعوبة الإستمرار بالأسلوب المستجدّ، أي، التعلّم عن بُعد.

في الحلول، يمكن لنا اختصار المناهج التربوية بنسبة 50 %، وكلنا يعرف حجم الهدر بالمجهود وحجم الحشو الموجود في مناهجنا، دعونا نعطي الطالب، الضروري والمهم من المنهج، بدوام نصفي أو ربما اقل، على طريقة ان نفتح المؤسسات التربوية 6 ايام في الأسبوع، ونوزع طلاب الصف الواحد ضمن فئات متفرقة، أي 3 ساعات صباحًا وتعود المجموعة إلى منزلها، تليها ساعة كاستراحة للمربيات والمربين، ثم تأتي الفئة الثانية للصف لثلاث ساعات متتالية، مع المنع التام للخروج من الصفوف لأيّ سبب كان إلّا للمغادرة مع ذويهم، وفي سياراتهم الخاصة بسبب مخاطر الباصات في هذه المرحلة، دون أن ننسى أنّه يمكننا العمل بنظام يوم عطلة ويوم مدرسة للطلاب إذا كان عددهم في الصف الواحد مرتفعاً، فيكون بالتالي الصف المؤلف من 30 طالباً، مقسّمًا على فئات أو مجموعات صفيّة لا تتعدى كلّ منها 10 طلاب وممكن أقل، وإذا ما اتُخذت وطُبّقت البروتوكولات الصحية العالميّة لكورونا، كالكمّامة والنفق التعقيمي الذي صار متوافراً في لبنان، وقياس الحرارة والتعقيم التلقائي في الصفوف ضمن اجهزة ممكن أن تتوفر وكلفتها ممكنة، يمكن بعد ذلك أن نخفّض إمكانية الإصابة بكورونا إلى أقل من 2%.

بعد هذا العرض، تجدر الإشارة إلى أنّه لا يمكن لنا أن ننجح في تطبيق وتنفيذ هذه العملية، دون قوانين تربوية صارمة وصلاحيات واسعة للمدراء كما وللنظّار، دون أن نهمل الدور الضروري لأجهزة التفتيش والأمن على السواء، لضبط أيّة مخالفة وحرمان الطالب المخالف من عامه الدراسي، علّنا في طرحنا هذا، وتفاديًا للعنة الأجيال القادمة لما نقدّمه لهم، يمكن أن ننقذ التربية، وبالتالي، ننقذ الإنسان في لبنان.