الجوّ الأوروبي مشحون والتصدّع السياسي يهدّد تماسك الاتّحاد الأوروبي منذ سنة تقريباً. ظاهرة الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسّط ليست جديدة. ولكن بعد المأساة السوريّة وتهجير الملايين من الشعب السوري المنكوب والحرب الليبية عدا عن التدهور الاقتصادي والأمني في القارة الأفريقية، نرى موجات من المهاجرين يتهافتون من كلّ حدبٍ وصوب إلى القارّة الأوروبيّة.

المسألة ليست ببسيطة لا على الصعيد السياسي ولا على الصعيد الإنساني. الهيستيريا بين البلدان الأوروبيّة تستشري بالأوساط السياسيّة: يميناً و يساراً ووسطاً.

لفهم هذه التعقيدات السياسيّة يجب الرجوع إلى السنة - المفتاح: ٢٠١٥. أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ ومهاجر أتوا إلى أوروبا عبر البرّ وعبر البحر، بعد قرار المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل بفتح الحدود. منذ ذلك التاريخ المتزامن مع حفنة من الاعتداءات الإرهابيّة في أوروبا، خصوصاً تلك التي استهدفت مقرّ الجريدة الساخرة "شارلي إيبدو" في باريس، استيقظ الأوروبيّون على جوّ من الخوف ونهضة وطنيّة، شوڤينيّة في بعض الأحيان.

وصل حزب الليغا الشعبوي في ايطاليا إلى الحكم، وسيباستيان كورز اليميني المحافظ أصبح مستشاراً في النمسا، أتى البريكسيت وتبعه تشكيل حلف ڤيزغراد في شرق أوروبا المناهض لسياسة الهجرة المتّبعة من الاتحاد الأوروبي. ولكن ماذا يعني كلّ ذلك؟

تبيّن الدراسات أنّ عدد المهاجرين إلى أوروبا تدنّى إلى ٢٠٠،٠٠٠ سنة ٢٠١٨، أي خُمس العدد الذي سُجِّل في الـ٢٠١٥. فكيف نفسّر تقدّم الخطاب اليميني في أوروبا بعد سنوات من حكم اليسار؟ الجواب مزدوج. أوّلاً، أوروبا هي قارة استقبال للمهاجرين منذ القرن الماضي: الأتراك في ألمانيا والمواطنون من أصول مغربيّة وأفريقيّة في فرنسا عدا عن جنسيّات كثيرة موزّعة على باقي بلدان الاتحاد الأوروبي بحكم المعاهدات المبرمة بحسب القوانين الاوروبيّة.

ثانياً، هناك بُعد ثقافي وحضاري للأزمة. بعض الثقافات لا تتلاءم مع النسيج الاجتماعي الأوروبي. حالات الانحراف كثيرة وبعض المجموعات المحافظة إسلاميّاً ترى صعوبةً بالتماشي مع النمط الأوروبي المنفتح والمتحرّر. في بعض الضواحي الفرنسيّة تكثر ظاهرة العنف ضدّ المرأة وشتم غير المحجّبات كما التهديد بالضرب والاغتصاب. عدم التناغم الثقافي أودى بالشعوب الأوروبيّة إلى خيار اليمين المحافظ والقومي الذي يذكّر بالهويّة الأوروبيّة والهويّات الخاصّة للبلدان. كما انّ تراخي بعض الحكومات مع مسألة الإرهاب وتزايد ظاهرة السلفيّة في أوروبا شكّل نقمة لدى الشعوب. أظهرت دراسة حكيم القروي من مركز الأبحاث "مونتان" أنّ السلفيّة تفتك بالمجتمعات الأوروبية في أوساط المواطنين من أصول عربيّة وإفريقيّة. وأتت هذه الدراسة بالتزامن مع العقوبات الأوروبية ضدّ ڤيكتور أوربن، رئيس المجر ذات السياسة الرافضة للمهاجرين. وسجّل هذا الحدث نقطة فارقة في تاريخ الاتحاد الأوروبي. وبعيداً عن التقييم السياسي لليمين أو لليسار، يمكننا القول أنّ مشكلة الاتحاد الأوروبي هي الهجرة.

ومعركة اليمين الأوروبي ترتكز على بعض الأحداث التي لا يمكن تجاهلها. أوّلاً، اللجوء الاقتصادي الى قارة تقلّ فيها نسبة النموّ بعد حدثين مهمّين: العقوبات الأميركية على أيران وانسحاب كثير من الشركات الاوروبية من هذا البلد، وفرض ضرائب أميركية جديدة على القصدير والألمنيوم المُصدّر من أوروبا. ثانياً، عدم الأمان الثقافي. فالشعوب تعود إلى تاريخها وترفض فرض أيّ ثقافة أخرى على أرضها. ثالثاً، التصدّي للتقدّمية التي يدافع عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فالتيارات المحافظة تنادي بحق الشعوب في تقرير مصيرها بعيداً من النظرة التقدميّة الشموليّة.

ولكن على صعيد أنساني موازٍ لهذه الأزمة، نرى شعوباً كان حتفها الفقر والتشرّد والوقوع في شرك الإتجار بالبشر.

فهل من سياسة أوروبيّة "إنسانيّة" بعيداً عن منظومة التقدميّة المبسّطة للأمور والشعبويّة التي تغازل روسيا وقيصرها الجديد بوتين؟ هل من سياسة ترمي إلى إنماء القارة الأفريقية لتحاشي توافد أعداد كبيرة من المهاجرين إلى قارة قديمة كأوروبا؟ هل من يدعو بوضوح إلى إسقاط بشار الأسد أوّل مُهجّر للشعب السوري؟

الجواب عند الحكومات الأوروبيّة التي تنقسم على بعضها أكثر وأكثر قبيل الانتخابات البرلمانيّة الأوروبيّة في أيّار المقبل.

الحلّ ليس بالتقدّميّة ولا بالشعبويّة. الحلّ يكمن بالرجوع إلى الأخلاقيّات في السياسة.