يورد فرنسيس نصاً كتبه أسقف قورش المؤرخ تيودوريس في القرن الخامس، يذكر فيه أنّ جماعة مار مارون اختلفت فيما بينها على مكان دفن مار مارون، بعدما أصرّت كلّ مجموعة على دفنه في ضيعتها أو منطقتها.

الشرخ الأوّل

ولئن ردّ أسقف قورش الخلاف الى دافع الايمان ورغبة كل قرية بالاحتفاظ بـ»الكنز الثمين» (جثمان القديس)، فإنّ الكاتب خلص في بحثه الى انّ الجنازة أفرزت خطين متوازيين يتناقضان مع سيرة القديس التقشفية:

الخط الأول: العنف الذي تجسّد باختلاف مجموعة المشيّعين أو «جماعة مارون» فيما بينهم.

الخط الثاني: المنفعة التي جناها الذين ظفروا بـ»الكنز الثمين» بقوة الغلبة.

ويتحدث فرنسيس عن خط ماروني ثالث، خط التقوى والتعبّد والصلاة المتجسّد في تعاليم الكنيسة المارونية، مشيراً الى أنّ هذا الخط الثالث انتهجته النسبة الكبرى من المجتمع الماروني.

يتّضح أنّ الشرخ الاول بين الموارنة بدأ مباشرة بعد وفاة القديس مارون. يومها، لم يكن بعد للكنيسة المارونية ككيان مؤسسيّ أي وجود، ولم يكن في وارد القديس مارون تأسيس جماعة أو مذهب. جلّ ما في الأمر أنّ فضائله عمّت النواحي المحيطة بمكان تنسّكه، فحجّ اليه كثر من المؤمنين طلباً لشفاعة.

منذ ذلك الشرخ الماروني الأول، على رمزيته، كرّت السبحة. توسّعت الشروخ وتفرّعت. بين الكنيسة والإقطاع. بين الإقطاع والعوام. بين الكنيسة والطبقة السياسية - الحزبية. بين رأس الكنيسة الإنطاكية ورأس الجمهورية. بين حزب وحزب. وليس انتهاء بحرب 1990، إلغاءً سمّيت أم توحيد البندقية.

الأحقاد والضغائن

تركت الحرب الأخيرة في سلسلة الحروب الأهلية، من دون أدنى ريب، أثراً شديداً في نفوس الموارنة وحزبيهما الأكبرين.

إثر توقيع اتفاق الطائف ومن ثم النفي، فالانقلاب عليه سجناً وتهميشاً وتقتيراً، إعتملت نفوس مناصري الحزبين الأكبرين واضطرَمت. لكنّ هاجس مقارعة الوصاية السورية أرجأ شرخاً آخر ظل متوقعاً، حتى انفجرت النفوس عينها بعد العودة والخروج. خرجت كل الأحقاد والضغائن دفعة واحدة. أضمر من أضمر، وتربّص من تربّص.

بين العامين 2005 و2015، صار عدم الانتظام، السِمة التي رافقت الموارنة منذ ذلك الشرخ الأول يوم اختلفوا في الجنازة وعلى الجثمان، قاعدة يبني عليها الشريك المسلم.

وصار انقسامهم بين محور وآخر مصدر ضعف ونذير التحاق، بعدما كانوا على رغم عدم انتظامهم روّاداً في العمل السياسي والوطني، حتى اقترنت السياسة باسمهم، يوم أصبح مصطلح المارونية السياسية، المركّب الهجين الذي اشتمل على كل الطوائف والمذاهب، صنواً لبناء الدولة، ولانهيارها لاحقاً.

حبر ورقة معراب

في فصل جنون الموارنة، مرة كل 6 سنوات وفق تعريف ميشال إده لهذه الموسمية القاهرة، ثمّة انطباع لدى عموم الموارنة وعوامهم، أنّ الشريك إيّاه يتحيّن الفرصة، منذ الجمهورية الثانية، للكسب السياسي غير المشروع. رئيس الـ أي كان، والـ أي ثمن.

يتفرّق الشريك ويتشظّى تحت وابل المحاور والمصالح والخصام الألفيّ، لكن يجمعه التحيّن للتكسّب، كما يجمعه اليوم حبر ورقة معراب، على رمزيتها! إنطباع ماروني جامع، أكاد أقول وأتجرأ.

أول تجليات الورقة، الأهم للحزبين الأكبرين، الثبات في الترشيح الرئاسي، في انتظار الإفراج فالفرج، لتكتب في ضوئه قاعدة واحدة واضحة: لا رئيس بالتراضي.

ثاني التجليات شبه إجماع في الرابطة المارونية زكّى أنطوان إقليموس للرئاسة، بمعركة أريدت لتحديد الاحجام. (يتبيّن من الكتاب المفتوح الذي وجّهه إقليموس الى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عشيّة زيارته لبنان انّ ثمة نهجاً جديداً في الرابطة أكثر ألقاً ودينامية وحيوية).

ثالث التجليات ذلك المرتقب في الانتخابات البلدية والإختيارية. فحراك الورقة ترك أثره في أكثر من منطقة، لكنه أيضاً كتّل المتوجسين. ولن يحدّ الطابع العائلي لهذا الإستحقاق مساعي محاولات الإستثمار في مربّع الانتخابات النيابية المعلقة.

أما رابعها فقانون عادل يعيد إنتاج الطبقة السياسية - النيابية على قاعدة التفهّم والتفاهم: تفهّم الحاجة المسيحية القصوى الى التمثيل الصحّ وإجهاض منتجات الحاضنات النيابية المعلّبة والهشّة، وتفاهم مع الشريك على مساحة مشتركة لا تقصي ولا تستفزّ.

القانون العادل هذا هو الحاجة المسيحية الكيانية التي ليس بعدها حاجة أو همّ. من دونها لن يبقى من المسيحيين، من يبكي حتى على طلل شرخ او فراغ!