علاقة لبنان بسوريا، وعلى عكس تمنّيات الشعبين اللبناني والسوري، وخلافاً لما تمليه مصالح هاتين الدولتين، لم تكن طيلة سبعين عاماً علاقة طبيعية أو كما يفترض أن تكون بين دولتين وشعبين جمعهم هذا القدر من المصير المشترك والتاريخ والجغرافيا.

منذ البداية، منذ لحظة التكوين كانت الخطيئة الأصلية: فلا الأنظمة المتعاقبة في سوريا ارتاحت للنزعة الاستقلالية لبلد الأرز الصغير، ولم ترَ بعين الرضى سلخ مساحة كانت تعتبرها جزءاً من سوريا التاريخية، ولا لبنان ولا مسيحيّوه في البداية - وكافة أبنائه لاحقاً - ارتاحوا لنوايا البلد الجار، لا سيّما أنّه وبالرغم من جيرتهم القريبة والقريبة جداً، وديان شاسعة فرّقتهم...، وديان ممكن اختصارها بكلمة واحدة: الحرّية.

الحرّية رافقت تاريخ الموارنة. لا شكّ في أنّ هذه القيمة هي أفضل ما قدّموه للنهضة العربية ولفكرة لبنان الدولة. أمّا قمع الحرّية فكان العلامة البارزة لنظام الأسد الذي استمرّ أكثر من أربعة عقود. فالكنيسة المارونية والنظام القمعي على تناقض تامّ من حيث الالتزام بقيمة الحرّية وحقوق الإنسان. هذا جوهر الخلاف بين البلدين الجارين، جمعهم الكثير باستثناء الأساس لحياة وصيرورة الأنظمة والمجتمعات.

قمع الحرّيات لم يكن من نصيب الشعب السوري وحده، إنّما امتدّ الطغيان الى لبنان أيضاً، فعانى شعبه الأمرّين من بطش هذا النظام الذي تسلّل الى داخله زارعاً نار التفرقة، لاعباً على تناقضات أفراد العائلة الواحدة، تارةً تحت شعار العروبة وطوراً تحت شعار الممانعة. على يديه مات من مات، وسُجن مَن سُجن، ونُفي من نُفي، وهُجِّر من هُجِّر.

الحقّ يقال وللذاكرة، أنّ المسيحيين وعلى رأسهم بكركي، بصمتِها، بصمودِها، وقفت سدّاً منيعاً أمام وصاية النظام الأسدي على بلد الأرز، وبقيت حارساً مدافعاً عن حرّية شعبه ووحدة أبنائه. لهذا السبب لم يقم أحد من بطاركة لبنان الكبار بزيارة حتى ولو رعوية إلى سوريا. الامتناع كان إشارةً لهذه الخطيئة الأصلية. الامتناع كان أوّلاً اعتراضاً على غياب الحرّية، وعلى الحملات المتكرّرة لاغتيالها بهدف ترويض البلد الصغير.

لكن للتاريخ حتميته، مرَّت الأيام السوداء وعلا صوت بكركي منادياً بالحرّية، وكان نداء المطارنة عام 2000. إجتمعت العائلة اللبنانية أو أغلبيتها وراء لوائها، وأجبرت القوات السورية على الانسحاب.

اليوم يخرق بطريرك الموارنة هذا الامتناع وسط مشهد مريب. النظام في سوريا لم يتغيّر، لا بل مستمرّ في اعتدائه، عاد وتسلّل إلى الداخل اللبناني مستفيداً من أخطاء البعض وتخاذل البعض الآخر... أمّا الجديد المؤلم فهو أنّ آلة القتل انتقلت إلى الداخل السوري تضرب خبط عشواء، تحصد الأبرياء والعُزّل. سوريا تغرق في دم شعبها الذي يصرخ للحرّية.

وإن كان صحيحاً أنّ المجتمع الدولي ظهر عاجزاً عن إيقاف الجريمة، لكنّه على الأقل لم يكن أصمّاً أمام هولها ولم يشهد خلافاً للحق. فبعد أن فقد الأمل في نيّة النظام في "الإصلاحات" طالبه بالرحيل، فأين بكركي من هذه المأساة؟ هل تغضّ النظر أو لا سامح الله تغطّي اغتيال الحرّية استجابةً أو رضوخاً لمخاوف دفينة؟.

صحيح أنّ الزيارة رعوية في عنوانها ومناسبتها، لكنّها لم تخلُ من مواقف سياسية. العقيدة المسيحية ترفض الحرب والعنف. هذا جليّ لا نقاش فيه. ولكنّها أيضاً تشهد للحقّ ولا تساوم لا على الحرّية ولا على كرامة الإنسان. هذا صلب العقيدة أيضاً. على هذا الأساس رفضت الكنيسة، وبعد مراجعة نقديّة لتصرّف بعض رجالاتها خلال الحرب العالمية الثانية، أيّ إنزلاق يؤدّي الى التضحية بالحرّية أو بكرامة الإنسان من أجل سلام زائف.

تاريخ الكنيسة يزخر برجال كبار تميّزوا إمّا بصمتهم إذا لم تتوافر شروط مقاومة الطغيان، إمّا بجهارهم في المطالبة بالإثنين معاً أي السلام والحرّية. وأبرز من جسّد تلازم هاتين القيمتين كان يوحنّا بولس الثاني، وليس آخرَهم الحبرُ الأعظم بنديكتوس السادس عشر حين دعا من بيروت في 15 أيلول 2012 الى السلام في وسوريا ولم يتوانَ عن تحيّة "شجاعة" الشباب السوري.

فوفاءً لتضحيات شعب ولذاكرة لم يغسلها بعد أيّ اعتذار، لا بدّ من التذكير وإن ناقضنا بعض ما قيل: المسألة ليست مسألة إصلاحات بقدر ما هي مسألة حرّية. الحرية قيمة مسيحية بامتياز، ميّزت الكنيسة المارونية، إستشهد في سبيلها قدّيسون وبطاركة أقدمون، لحقَ بهم لبنانيّون، مسيحيّون ومسلمون.. ليبقى لبنان أرضاً للحرّية.