لبنان الساحة «الرخوة»
لبنان الساحة «الرخوة»
جوني منيّر
Monday, 29-Dec-2025 07:28

هو الإجتماع الخامس لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أقل من عام، في سابقة تاريخية. فقبلاً، لم تكن زيارة أي رئيس حكومة إسرائيلية إلى الولايات المتحدة بهدف الإجتماع بالرئيس الأميركي تتجاوز المرّتين خلال العام الواحد. وهو ما يبعث على الإعتقاد بوجود ملفات بالغة الأهمية تستوجب مشاورات سريعة، ما دفع نتنياهو إلى طلب الإجتماع، على رغم من وجود ترامب في منتجعه الخاص في فلوريدا لمناسبة عطلة الأعياد.

وقبيل سفر نتنياهو، وزّع الإعلام الإسرائيلي الملفات التي يعتزم نتنياهو طرحها على النقاش مع ترامب، وهي ملفات غزة وإيران و«حزب الله» وسوريا. لكن ثمة ملفاً خامساً لا يقلّ أهمية سيعمل نتنياهو على وضعه على طاولة النقاش، ولكن من دون إبرازه في الإعلام نظراً لحساسيته، وهو الملف التركي. فالحسابات الإسرائيلية باشرت منذ مدة التركيز على المرحلة المقبلة، والتحدّيات التي يمثلها طموح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يسعى لتوسيع دائرة نفوذه، عبر ملء الإرث الإيراني وفرض نفسه قطباً إقليمياً أساسياً، ومستنداً في هذا الإطار إلى علاقته الجيدة بالرئيس الأميركي. وخلال الأيام الماضية، ركّزت الصحافة الإسرائيلية بشيء من التوجس المتزايد، على تسارع بناء القوة البحرية التركية. وتحدث الإعلام الإسرائيلي عن قرار تركي بالشروع في بناء 39 سفينة حربية في آن معاً. وحملت إحدى الصحف العنوان العريض الآتي: «أسطول أردوغان العملاق يكتسب زخماً سريعاً». والمعروف أنّ أحد أوجه النزاع الدائر في المنطقة يتركز حول الثروة النفطية في البحر الشرقي للمتوسط. وأشارت التقارير الإعلامية الإسرائيلية إلى أنّ التوسع السريع في القدرات البحرية التركية بات يشكّل مصدر قلق حقيقي لإسرائيل، مع انتقال أنقرة من مرحلة التخطيط إلى التنفيذ الفعلي لمشاريع استراتيجية كبرى. ولأجل ذلك، سارعت إسرائيل إلى تمتين تحالفها مع قبرص واليونان، وهي قرّرت تزويد قبرص ثلاثة أنظمة لأسلحة متطورة.

 

وعلى رغم من النزاع الذي بدأ يتكوّن وفق حسابات المصالح المستقبلية بين تركيا وإسرائيل، إلاّ أن الطرفين يحرصان على ترتيب تصفية الإرث الإيراني، إسرائيل من خلال القبضة الحربية، وتركيا من خلال القبضة الناعمة أو «قبضة الحرير». فطهران التي سعت لإبراز دورها المساعد والمفيد لتركيا لمواجهة التغول الإسرائيلي، سمعت كلاماً تركياً مشجعاً، ولكنه بقي بلا ترجمة. فبغض النظر عن الرغبة التركية الفعلية، فإنّ المشروع الأميركي الفعلي لا يلحظ حضوراً إيرانياً عند الساحل الشرقي للبحر المتوسط. وخلال الأسابيع الماضية، عمدت واشنطن إلى إطلاق حملة جوية واسعة النطاق على مواقع لتنظيم «داعش» في وسط سوريا وشماله، وخلال الموجة الجوية الأميركية عمدت الطائرات الأميركية إلى استخدام القذائف الثقيلة لتدمير مراكز قيادة «داعش» ومستودعات الأسلحة وبنى تحتية لوجستية. وأرادت قيادة الـ«سينتكوم» من خلال ذلك، ليس فقط تدمير مواقع «داعش»، بل أيضاً توجيه رسائل تحذير للقوى المناهضة للولايات المتحدة في المنطقة، مثل إيران والفصائل المتحالفة معها، إنفاذاً للعقيدة السياسية التي ينتهجها ترامب، والتي تحمل عنوان: «الردع عبر استخدام القوة».

 

وتروي أوساط ديبلوماسية أميركية، أنّ ترامب يهدف إلى استعادة صدقية بلاده بعد فترات طويلة من الميوعة، كما وصفتها هذه الأوساط، ما أدّى إلى تعاظم ثقة أعداء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ما يعني أنّ إدارة ترامب مصمّمة على «تصحيح» هذا الإنطباع الذي كان قائماً. ووفق هذا السياق، فإنّ هامش تركيا في إجراء صفقات جانبية مع إيران يصبح ضيّقاً ومحدوداً.

 

وبالعودة إلى الملفات الأربعة المعلنة، فإنّ نتنياهو يسعى إلى تأجيل تطبيق المرحلة الثانية من اتفاق غزة إلى حين نزع سلاح حركة «حماس» كلياً. وفي الواقع ثمة «قطب» مخفية في دعوة نتنياهو، إذ إنّه أطلق في هذا التوقيت بالذات مشروع الإعتراف باستقلالية إقليم «أرض الصومال». وعدا الفوائد الإستراتيجية المتعددة التي تكسبها إسرائيل، ثمة «فائدة» بالغة الأهمية لليمين الإسرائيلي، وتتعلق بدفع الغزاويين إلى النزوح من أرضهم إلى أرض الصومال. وهذا ما يشكّل محور نزاع إضافي مع أردوغان الذي يستعد للتمركز في غزة وبالتالي تعزيز حضوره على المتوسط إنطلاقاً من شاطئ غزة. مع الإشارة هنا إلى ما تتناقله أوساط ديبلوماسية حول وجود رغبة تركية بالمشاركة في القوة الدولية المتعددة الجنسيات، والتي ستنتشر في جنوب لبنان كبديل عن قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل).

 

لكن نتنياهو يريد قبل ذلك إقفال الملف الإيراني. وهو لذلك يحمل معه ملف تجدّد «الخطر» الإيراني، وعمل على التمهيد لذلك عبر الإعلام الإسرائيلي، وأيضاً عبر بعض الإعلام الأميركي والذي يتأثر بنفوذ اللوبي اليهودي. فإسرائيل تدّعي أنّ إيران تجري تدريبات واسعة النطاق من خلال استخدام الصواريخ البالستية. وإنّ هذا الوضع سيجعلها مؤهلة لتحويله في أي لحظة إلى هجوم مفاجئ يستهدف إسرائيل، في استنساخ واضح للعقيدة العسكرية السوفياتية، والتي كانت ترتكز على تحويل المناورات العسكرية إلى هجوم مباغت، تماماً كما حصل في حرب العام 1973. كما يتهم نتنياهو إيران بتسريعها في مشروع إعادة ترميم قدراتها الصاروخية البالستية وبأعداد وأحجام كبيرة. كذلك إعادة بناء القدرات العسكرية للحوثيين في اليمن، وترتيب عمليات تهريب أسلحة إلى الضفة الغربية للقيام بهجمات داخل إسرائيل، كما السعي في استمرار إلى تزويد «حزب الله» السلاح إضافة الى تنظيمات مسلحة في سوريا. ووفق ما تقدّم، يمكن الإستنتاج أنّ نتنياهو سيركّز مطالعاته على أساس أنّ إيران تعمل فعلياً على إعادة ترميم «محورها» القديم برمته، ما يهدّد بإجهاض النتائج التي تحققت خلال الحرب الأخيرة.

 

لكن من الواضح أنّ الرئيس الأميركي ليس متحمساً لإعادة فتح باب الحرب على إيران في الوقت الراهن، على رغم من أنّه يصعب الجزم بالموقف النهائي الذي سيتخذه. ذلك أنّ تجربة الماضي القريب تدفع إلى عدم الركون إلى المواقف المعلنة. فترامب كان يعلن سابقاً تفضيله الحل السلمي والعودة إلى المفاوضات حول الملف النووي الإيراني. لكن وعند دنو لحظة الحقيقة، لم يكتف ترامب فقط بإعلانه دعم الحرب الإسرائيلية على إيران، بل شارك فيها مباشرة عبر قصف الطائرات الأميركية المنشآت النووية الإيرانية. إلّا أنّ الثابت هو أنّ واشنطن ترفض مجاراة إسرائيل بالسعي لإسقاط النظام الديني القائم، لا بل إنّها تقف ضدّ هذا الخيار بحزم، ولذلك أسباب عدة أهمها عدم وجود بديل مقنع ومناسب. وواشنطن تدرك أنّ لنتنياهو مصلحة في الإبقاء على حالة الحرب في مختلف جبهات المنطقة، كون ذلك يخدم مصالحه السياسية والشخصية. ألم يكن كلام وزير الدفاع يسرائيل كاتس كافياً حول عدم وجود نية إسرائيلية للخروج من قطاع غزة، وعن عزم إسرائيل إقامة منطقة أمنية عازلة؟ ولذلك يعمد نتنياهو إلى توجيه ضربات فجائية في غزة بهدف تفجير الأوضاع، وفي الوقت نفسه يعمل على إبقاء جبهة لبنان مفتوحة عبر الإغتيالات اليومية. وبذلك هو يعمد إلى تكريس حال حرب مستمرة، ولو وفق وتيرة منخفضة المستوى، من خلال تنفيذ هجمات شبه يومية تؤدي إلى اغتيال كوادر من «حزب الله»، الى جانب التهديدات المتكرّرة باستئناف الحرب الواسعة على لبنان. لكنه يعمد هذه المرّة إلى التصويب على الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية.

 

فقبل سفره عَمَد نتنياهو إلى توجيه رسائل ميدانية مرمزة. فعمدت إسرائيل على سبيل المثال، إلى الإعلان عن اغتيال جندي في الجيش اللبناني اتهمته بأنّه ينتمي إلى «حزب الله». وبعد ذلك تولّى أحد المواقع الإسرائيلية والمعروف بارتباطه بالأجهزة الأمنية الإسرائيلية، على الترويج عن وجود نسبة عالية من الجنود المرتبطين بـ«حزب الله». كذلك عمدت إسرائيل إلى اغتيال أحد كوادر «حزب الله» في الناصرية ويدعى حسين محمود مرشد الجوهري، واصفة إياه بأنّه ينتمي إلى وحدة العمليات التابعة لفيلق القدس الإيراني (840)، ما يمنحها ذريعة قوية تتحدث عن وجود عناصر لـ«فيلق القدس» في لبنان تتولّى إعادة ترميم القدرات العسكرية لحزب الله. وكذلك أقدم الموساد الإسرائيلي على خطف ضابط متقاعد في الأمن العام اللبناني، مدّعية وجود علاقة له في ملف طيارها المفقود رون أراد. وقبل ذلك جاءت الإعترافات المصورة لعماد أمهز حول أهداف إيران و«حزب الله» البحرية. ومن الواضح أنّ كل ذلك يؤشر إلى وجود تحضيرات تهدف للتهيئة لعمل ما.

 

وفي هذا الوقت، فإنّ ترامب المتمسك بإتفاق غزة وعدم خرقه، والذي يوحي بأنّه لا يريد العودة إلى الحرب مع إيران، ربما لوجود شيء ما في كواليس التفاوض السرية، والمتمسك بضرورة حماية السلطة القائمة في دمشق والتي تتناتشها أزمات داخلية عاصفة، قد يترك الباب اللبناني مفتوحاً أمام إسرائيل، خصوصاً مع تمسك «حزب الله» ومن خلفه إيران بعدم الإنتقال إلى أي مرحلة إضافية في موضوع نزع سلاح الحزب. وهذا ما دأب على تكراره الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، والذي قاله بوضوح وبعبارات قوية وحاسمة لا بل وتحذيرية أمس. وقد يجد ترامب في ذلك دافعاً مساعداً لمسايرة نتنياهو.

 

فالحكومة اللبنانية، والتي ستعلن في أول جلسة لها مع انطلاق السنة الجديدة إنجاز الشق اللبناني من المرحلة الأولى من برنامج حصر السلاح، ستطلب من الجيش الإنتقال إلى البدء بتطبيق المرحلة الثانية، وهو ما يرفضه «حزب الله». فالإجتماع الذي عُقد في باريس ترك الباب مفتوحاً «نصف فتحة» أمام عقد مؤتمر دعم الجيش والذي يحتاجه بشدة. والسبب مراقبة ما سيحصل على مستوى البدء بتطبيق المرحلة الثانية. وفي خطة الجيش البدء بتأمين المناطق التي لا تُعتبر مناطق نفوذ واحتضان لـ«حزب الله». لكن الحزب يرفض أي شكل من أشكال المخارج الموضوعة. وهنا تكمن المشكلة والتي سيعتبرها نتنياهو فرصة.

 

خلال الأيام الماضية، وفي مناسبة رفع عقوبات قيصر عن سوريا، نشرت وزارة الخارجية السورية عبر منصة (X) خريطة سوريا، ولكن من دون مدينة هاتاي وهضبة الجولان، وهو ما لم يكن يحصل أبداً في السابق، لا بل كان يشكّل عامل نزاع وتوتر مع تركيا من جهة ومع إسرائيل من جهة أخرى. لا بل إنّ هاتاي والجولان كانتا مدرجتين ضمن الخريطة الرسمية وفي كتب الدراسة وصولاً إلى النشرات الجوية وجوازات السفر. وهو ما يعني أنّ ثمة تسويات كبيرة ومتعددة تحصل في الكواليس، وتطاول جوانب جغرافية حساسة ومهمّة. وهو ما يستوجب على لبنان التنبّه من ارتكاب أخطاء قد تزيد من تفاقم الأوضاع، بدل أن تؤدي إلى تحسينها، كما يأمل أو ربما يتوهم البعض.

theme::common.loader_icon