أي خيارات للطائفة الشيعية؟
أي خيارات للطائفة الشيعية؟
د. بلال اللقيس
Monday, 29-Dec-2025 07:17

ماذا بعدما التزم لبنان و»المقاومة» بنص الإعلان أو اتفاق وقف إطلاق النار؟ يُثار اليوم من «مُحبّين» أو مغرضين، نقاش حول مستقبل «المقاومة» والطائفة الشيعية في لبنان، باعتبارها العامود الفقري «للمقاومة» اليوم. بالنسبة إليهم «المقاومة» صارت عند مفترق بين خيارَين لا ثالث لهما. إمّا أن تعمد لنيل ثمن سياسي في النظام مقابل تنازلات على صعيد الحق في «المقاومة» (احتواء السلاح، تجميده بدل نزعه)، أو معاكسة «القدَر» الذي تقوده أميركا نحو «الخير الوفير» و»السلام» ومَن تلكّأ فاته القطار.

يعاجل أولئك، النصح للشيعة بتلقف الفرصة، وأن يتّجهوا لتحسين واقعهم في بنية النظام السياسي، بعد ما عانوه من صنوف التهميش التاريخي. إنّها لحظة تعزيز موقعهم في النظام السياسي وتقييد نموذجهم كحركة تحرُّر وطني في مواجهة العدو الصهيوني وقوى الهيمنة.

 

ويلفت هؤلاء، إلى أنّ الخيار الثاني هو الكارثة بعَينها، لأنّ العدو الصهيوني ذاهب لإنهاء «مقاومة لبنان» بالقوّة مجدّداً، وأنّ الوقت بدأ ينفد على لبنان و»المقاومة» بالسواء.

 

في تفنيد الإدّعاءَين:

لا يُنكِر أحد أنّ الدستور و«الطائف» يحتاجان إلى تطوير وتحسين في أمور عِدّة، وأنّهما واجها قصوراً في زوايا عديدة خلال التطبيق، لكنّ مسار وسياق التطوير لا يجب أن يأتي خارجياً، ولا أن يكون على حساب أو لصالح أحد، بل من أجل كل اللبنانيِّين والمصلحة العامة. فـ«حزب الله» ليس لديه انتظارات من هذا القبيل منذ انطلاقته كـ«مقاومة»، إنما الذي يحتاج فعلاً هو لبنان، ليستقيم كدولة فعلية عادلة وقادرة، وهو يَعتبر أنّ أي محاولات أو اقتراحات للتعديل في بُنية النظام السياسي لا يجب أن تمرّ إلّا بتوافق داخلي، لا أن تُفرَض بتسويات خارجية على حساب أي من المكوّنات الأخرى، لأنّ الخارج لن يذهب لتوسعة الفضاء اللبناني، بل لتضييقه. ما يعني أنّ أي أخذ سيكون على حساب طرف آخر! ولبنان لا يستمر إلّا بـ»قانون التوافق» بين مكوّناته، لا بمعادلات القوّة الخارجية المتبدّلة، لا سيما في منطقة كمنطقتنا، تعاني ما يكفي من هشاشة وتعدّل مستمر في ميزانها.

 

أمّا ثالثاً، فلا ينظر «حزب الله» ومجتمع «المقاومة» للسلاح أنّه «امتياز» ليُقايض عليه، بل هو حاجة وضرورة وطنية وأخلاقية حاسمة، بالنسبة إلى مجتمع «المقاومة». وربطاً بما عاناه في تاريخه من تضييق وتشريد وتعذيب، فإنّ السلاح بالنسبة إليه هو ملازم، وترجمة معنى الإنتماء المقاوم. إذ لا يستقيم أن تُعطى الشعوب الحق في المقاومة وتُحرم آليات ذلك والأدوات، فهذا من الأمور التي لا يمكن المقايضة عليها، طالما أنّنا في تهديد وجودي، لا تملك الدولة تصوُّراً لرفعه ومنع العدو منه إلى يومنا هذا. فلا يمكن أن يتنازل مجتمع عن الحق بالحياة والكرامة باعتبارهما جوهر البقاء والمعنى.

 

رابعاً، لأنّ أياً من القوى التي تدّعي أنّها ضامنة، هي إمّا قوى هيمنة كالولايات المتحدة وأصدقائها أو أتباعها. وهل هناك ضمانات مع دولة كأميركا (نراها اليوم تتخلّى عن أوروبا بما تمثل). ناهيك عن أنّ الضامنين أنفسهم، لا سيما الإقليميِّين، يعانون أزمة استقرار أمني واستراتيجي، بل هم أنفسهم في تحوّل إدراكي وتذبذب دور ولا يمتلكون أزِمّة أمرهم، فكيف يمكنهم تقديم التزامات موثوقة للبنان؟

 

لذلك، لا تبدو الطائفة الشيعية ومن حولها من «قوى المقاومة» في وارد المقايضة البتة، ولم تحمل السلاح لهذه الغاية بل لأمر وطني وإنساني سامٍ.

 

أمّا الكلام في الفرضية الثانية، أي التهديد الإسرائيلي، فالسؤال المطروح، هل التهديد الإسرائيلي بالعودة إلى العمل العسكري واقعي وفعّال؟ فبقدر ما تأخذ «المقاومة» التهديد بجدّ وتتعاطى على أساس الأسوأ، بالقدر عينه ترى أنّه لا يجب التخوّف الزائد منه، لماذا؟

 

أولاً، لأنّ أي فعل إسرائيلي حتى في أدقّ تفاصيله، هو بقرار وموافقة أميركية، ولا يقتصر على العنوان العريض فحسب، وبالتالي يجب النظر والتدقيق في المصلحة الأميركية وحدودها وبأي خطوة.

ثانياً، لأنّ لبنان اليوم في موقف أمام الرأي العام العالمي، مختلف لجهة التزامه بما ألزَم به نفسه وبما التزمت به الدول الراعية واطّلع عليه العالم بأسره، فهو في موقع المدافع الطبيعي عن بلده وأهله ويمتلك مبرّرات قانونية تامة.

 

ثالثاً، لأنّ «إسرائيل» ليست مطلقة اليَد في المنطقة، وإنّها قادرة على أن تحقق ما لم تحققه في ذروة هجومها في معركة «أولي البأس». فـ«المقاومة» أقدر على المواجهة اليوم، على رغم ممّا أصاب إمكاناتها المادية، وكذلك جبهة «المقاومة» أفضل، فهما لطبيعة ساحة المعركة والصراع ونقاط القوّة والضعف والفرص فيه. كما أنّ الكيان يحتسب أنّ أي مواجهة مقبلة قد تتحوّل في لحظة - غير معلومة نتيجة الغموض - إلى حرب إقليمية لا نهاية لها، وتكون تبعاتها على الجميع وعلى الكيان بالذات كارثية.

 

ورابعاً، لأنّ البيئة الدولية والأميركية خصوصاً، مشتّتة استراتيجياً بين أوكرانيا وفنزويلا وشرق آسيا ومنطقتنا وداخل أميركا، ولا يبدو المجتمع ولا الإدارة الأميركية مستعدَّين لحروب إضافية ونزف مفتوح في المنطقة.

 

وأكثر من ذلك، فإنّ الناظر بدقّة، يرى أنّ التخبُّط في السياسة الأميركية والفراغ الذي نشأ خلال العامَين يُعيدان إحياء قوى وجماعات تصنّفها أميركا إرهابية، وتدّعي أولوية محاربتها كـ»داعش». في المقابل، ترى «جبهة المقاومة» أنّ البيئة الإقليمية والعالمية أفضل حالاً اليوم من ذي قبل، لصدّ أي عدوان مفترض تقوم به إسرائيل، وليس آخراً، فإنّ «مقاومة لبنان» قد تكون قادرة أن تدفّع الكيان ثمناً باهظاً فيما لو استمرّ بالعدوان بعد الإنتهاء من جنوب النهر.

 

لذلك، لا يذهبنّ أحد إلى أنّ الكيان قادر على أن يستمر في إملاء الشروط. لذلك وجب الأخذ بالإعتبار المباني التالية:

 

- إنّ أي نقاش بما يخصّ السلاح شمال النهر يتمّ من خلال حوار وطني خالص من ضمن استراتيجية أمن وطني.

- أيّ تراخٍ من الحكومة اللبنانية والسلطة، على غرار ما سلف، وإدارة المرحلة بعقلية التنازلات، فهذا يعني أنّ السلطة تخالف ما التزمت به، فتنقل المشكلة إلى الداخل ويُصبح تصنيفها في موقع المتواطئ واعتبارها فاقدة الشرعية.

- إنّ «المقاومة» لا تمانع بل تُشجِّع أي حوار بنّاء، وتبدّي كل تعاون ممكن مع أي تفاهمات وتوافقات تحفظ الثوابت والخطوط الحمراء لجهة حماية لبنان (لا استنقاذ إسرائيل على حساب لبنان)، فلا يجب أن يُتاح لإسرائيل أن تأخذ بالسياسة من لبنان ما لم تحققه بالقوّة والحرب من لبنان.

 

- أمّا في حال فشل كل تلك المسارات وأصرّت إسرائيل على تجاوز ما أقرّه الاتفاق في جنوب النهر وتهديد لبنان، فلن يكون أمام الشعب اللبناني إلّا خيار التصدّي، باعتباره خياراً تلقائياً طبيعياً وطنياً أخلاقياً لا محيص عنه، وهذا يُحتِّم على «المقاومة» والدولة، كلٌّ من موقعه ووفق إمكاناته السياسية وغير السياسية، ابتداع وسائل وإنتاج معادلة نتصدّى فيها كلبنانيِّين لأي عدوان. معادلة لمواجهة العدو الصهيوني ولتعزيز اللحمة والحؤول دون أي تواطؤ وتمكين العدو من لبنان - على رغم من استبعادنا لقيام العدو بحرب على لبنان.

في الختام، يمكن بمزيد من الصبر واللحمة وإثبات التضامن والموقف الواحد الموحّد، منع العدو من تحقيق هدفه. فالمنطقة عموماً ما زالت في زمن التأرجح، والعدو الصهيوني ليس بمنأى عن ذلك، فتحدّيات جمّة تنتظره وتُصيبه، كما أنّ الدفع إلى معادلات نهائية لم ينتهِ بعد.

theme::common.loader_icon