أيّ نقاش قانوني جاد حول النظام المصرفي وحقوق المودعين، لا بُدّ أن ينطلق من القاعدة المؤسسة في الفكر القانوني الروماني: Salus populi suprema lex esto، أي إنّ سلامة الشعب هي القانون الأسمى. إذ حين تُمسّ السلامة الاقتصادية والاجتماعية، ويُهدَّد الأمن المعيشي للمواطنين، تفقد النصوص قيمتها العملية إن عجزت عن حماية الإنسان وحقوقه الأساسية.
1 - النظام المصرفي ركيزة دستورية وليس قطاعاً محض تقني
لم يكن النظام المصرفي في لبنان مجرّد قطاع مالي أو أداة استثمار فحسب، بل شكّل، تاريخياً، أحد أعمدة البنيان الدستوري اللبناني، ملازماً لفكرة الدولة نفسها، ومُكمِّلاً لمرتكزاتها وثوابتها الأساسية: احترام الدستور نصاً وروحاً، الاقتصاد الحُرّ، الانفتاح على العالم، ودور الاغتراب في تثبيت لبنان في محيط مضطرب.
أثبتت التجربة اللبنانية، ولا سيّما خلال سنوات الحروب المتعدِّدة (1975-1990)، أنّ المصارف شكّلت نموذجاً عملياً للميثاق الوطني: انتشرت في كل المناطق، تجاوزت خطوط التماس، وحافظت على صدقيّتها على رغم من انهيار مؤسسات أخرى. ولم يكن هذا الصمود تفصيلاً تقنياً، بل تعبيراً عن رأسمال ثقة تراكم على مدى عقود، داخلياً وعربياً ودولياً.
من هنا، ارتبط توصيف لبنان كـ"بلد صغير ودور كبير" ارتباطاً وثيقاً بنظامه المصرفي، على غرار النموذج السويسري، إذ تلازَم الاستقرار الدستوري مع الثقة المالية، فلا يمكن فصل المصارف عن صورة الدولة وسيادتها. وخلال سنوات الحروب (1975-1990) لم تسع الميليشيات إلى المَسّ بالنظام المصرفي، أو بالمصرف المركزي، أو حتى بالضرائب الجمركية التي استمرّت الدولة بتحصيلها، وذلك خلافاً لما جرى بعد "إتفاقية قاهرة" متجدِّدة في 6/2/2006، حين نشأ اقتصاد موازٍ تدخل فيه السلع عبر مرفأ بيروت أو المطار من دون تحصيل الضريبة الجمركية. وشهدت الأسواق للسلعة الواحدة سعرَين مختلفَين بحسب المنطقة التي تباع فيها (يراجع فصل اقتصاد الحرب في كتابنا: نزاعات الداخل وحروب الخارج- بناء ثقافة المناعة في المجتمع اللبناني، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، المكتبة الشرقية، بيروت، 608 ص، ص 413).
2 - السرّية المصرفية وموقع لبنان في النظام المالي العالمي
لا يمكن مقاربة قانون السرّية المصرفية الصادر في 3 أيلول 1956 خارج إطاره التاريخي والسيادي. فالسرّية المصرفية لم تكن يوماً غاية بحدّ ذاتها، بل أداة قانونية-مؤسساتية هدفت إلى حماية الملكية الخاصة وتعزيز الثقة، وترسيخ موقع لبنان كمركز مالي إقليمي في النظام المصرفي العالمي.
ارتبطت السرّية المصرفية مباشرةً بصورة لبنان في الخارج: دولة قانون، اقتصاد حُرّ، وضمانات قانونية فعلية لرؤوس الأموال، تداول السلطة في محيط إقليمي عانى الانقلابات والتأميم والمصادرة. ومن هذه الزاوية تحديداً دافع عنها رجال دولة، وفي مقدّمهم العميد ريمون إدّه، صَوناً لسيادة الدولة ومنعاً لتحويل لبنان إلى ساحة عبث أو ملاذ لحكم العصابات.
3 - الانقلاب على الفلسفة التأسيسية بعد 2019
إنّ الأزمة التي انفجرت منذ عام 2019، كشفت انقلاباً جذرياً في المفاهيم بوشر بتنفيذه منذ اتفاقية قاهرة جديدة (2006) لاستكمال القضاء على السيادة الوطنية والسلطات المالية. فبدل أن يكون النظام المصرفي حارساً للملكية، باتت الممارسة، في ظل غياب التشريع والرقابة وتواطؤ السلطة، تُفرغ هذا الحق من مضمونه، عبر احتجاز الودائع، ومنع المودعين من التصرّف بأموالهم من دون سند قانوني، ومن دون تعويض، ومن دون أفق زمني واضح.
إنّ الحسابات المصرفية ليست أرقاماً افتراضية، بل ملكيات خاصة تتمتع بكل عناصر الحق: الاستعمال، الانتفاع، والتصرّف. وإذا جُرّد المودع من هذه العناصر، انتُزع جوهر الملكية نفسه، في مخالفة صريحة للمادة 15 من الدستور اللبناني، والمادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
4 - الفجوة المالية بين الغموض وتفريغ الحقوق
لا يمكن اختزال النقاش حول الفجوة المالية في تمرين محاسبي أو التزام خارجي. فمشاريع القوانين المتداولة، بصِيَغها الحالية، تفتقر إلى الشفافية، ولا تحدّد بدقّة حجم الخسائر ولا مصادرها، وتُجزّئ المودعين إلى فئات وشرائح، في انتهاك واضح لمبدأ المساواة أمام القانون (المادة 7 من الدستور). وستبقى مشوبة بعَيب جوهري هو أنّ مَن صاغها هم مصرفيّون أو موظفون لديهم يمثلون ثلثَي أعضاء الحكومة.
الأخطر من ذلك، أنّ هذه المشاريع تتجنّب تحديد المسؤوليات بين الدولة، ومصرف لبنان، والمصارف، على رغم من أنّ الانهيار هو ثمرة سياسات مالية متراكمة وإدارة خاطئة للمال العام. فالتشريع الذي لا يُسمّي المسؤوليات ولا يُحدِّد مصدر الخسائر يتحوّل إلى أداة ترحيل للأزمة، لا إلى حلّ لها.
5 - الدولة الغائبة... والوقاحة السياسية
إنّ جوهر الأزمة ليس في المصارف وحدها، بل في انهيار الدولة وعجزها عن صون أبسط قواعد المالية العامة. ويكفي التذكير بتصريح علني، وبنبرة تفاخر، لأحد الوزراء على شاشة CNN أواخر عام 2019، قال فيه ما معناه: "ربما علينا أن نُعلِّم واشنطن ولندن كيف تُدار دولة بلا موازنة".
هذا التصريح، بحدّ ذاته، يُشكِّل إدانة سياسية وأخلاقية وقانونية لمنظومة حُكمٍ اعتبرت غياب الموازنة فضيلة، وتُطالب اليوم المودعين بتحمّل كلفة الانهيار. اللبنانيّون اليوم ليس لهم هذا التباهي، بل نريد أن نكون أكثر تواضعاً. فليأتِ صاحب هذا المنطق اليوم، لا ليُعلّم العالم كيف تُدار دولة بلا موازنة، بل ليشرح للناس كيف تُستعاد أموالهم المنهوبة!
6 - الثقة لا تُجزّأ ولا تُقتطع: إنّ الثقة بالنظام المصرفي لا تُبنى على تقسيط الودائع، ولا على سندات مؤجّلة، ولا على وعود مبهمة. فأدنى مساس بحقوق المودعين يُسقط رأسمال الثقة المتراكم لعقود، ويُفقد لبنان ثقة اللبنانيِّين والمغتربين والعرب والأجانب لسنوات طويلة مقبلة.
ماذا نقول للمغترب اللبناني الذي راكم ثروته في إفريقيا أو الأميركيّتَين أو أستراليا؟ كيف نطالبه بدعم وطن لا يجرؤ فيه على إيداع ماله في مصرف؟ إنّ تحويلات المغتربين كانت، ولا تزال، أحد شرايين الاقتصاد اللبناني، لكنّها لا يمكن أن تُبنى على انعدام الثقة.
إذا كان النظام المصرفي قد شكّل في الماضي ركيزة من ركائز "سويسرا الشرق"، فإنّ استعادته اليوم تمرّ حصراً عبر إعادة الاعتبار لحقوق المودعين، تحديد المسؤوليات، واحترام الدستور. فالثقة لا تُفرَض بالقوانين ولا تُستعاد بالشعارات، بل تُبنى بالفعل، وأوّل أركانها صَون الملكية الخاصة، احترام الالتزامات التعاقدية، وإعلاء سلامة الشعب فوق كل اعتبار.