خبير اقتصادي
يقف لبنان اليوم عند مفترق تاريخي بالغ الدقّة، في ظل تسارع التطورات الأمنية والسياسية على حدوده الجنوبية، حيث تتقاطع ثلاثة مسارات متناقضة: لجنة الميكانيزم، الديبلوماسية التقليدية، وخيار المقاومة. يأتي ذلك في سياق اختلال غير مسبوق في موازين القوى الإقليمية والدولية، وتراجع واضح في فاعلية النظام الدولي وقدرته على فرض قواعد القانون الدولي.
لجنة الميكانيزم: إدارة التوتر لا حلّ النزاع
انعقاد لجنة الميكانيزم للمرّة الثانية، في حضور المفاوض المدني سيمون كرم، عقب الاعتداءات المتكرّرة على منازل المدنيين، يعكس تحوّل دورها إلى آلية لاحتواء التوتر ومنع الانفجار الشامل، بدل فرض التزامات رادعة على إسرائيل. رفض الجيش اللبناني السماح بدخول المنازل شكّل موقفًا سياديًا واضحًا، لكنه في الوقت نفسه وضع المؤسسة العسكرية في موقع بالغ الحساسية: الدفاع عن السيادة من دون امتلاك أدوات ردع كافية. وبهذا، تبدو اللجنة أقرب إلى منصة تسجيل اعتراضات لبنانية، أكثر منها إطارًا فعّالًا لتغيير الوقائع الميدانية.
الديبلوماسية اللبنانية: سقف منخفض في عالم منحاز
تصريح الزعيم اللبناني وليد جنبلاط بأنّ البلاد «دخلت العصر الإسرائيلي» لا يعبّر عن موقف سياسي ظرفي، بقدر ما يعكس إدراكًا لانحسار فاعلية القانون الدولي. فالمجتمع الدولي يبدو عاجزًا، أو غير راغب، في كبح الانتهاكات المتكرّرة، في ظل سياسة أميركية بات قرارها العملي منحازًا لإسرائيل. نتيجة لذلك، تجد الديبلوماسية اللبنانية نفسها محكومة بسقف متدنٍ، يقتصر على إدارة الخسائر وتخفيف الأضرار، بدل تحقيق مكاسب سياسية أو قانونية ملموسة.
المقاومة: توازن ردعي بلا حرب شاملة
في هذا الفراغ الدولي، تستعيد المقاومة موقعها كعامل توازن ردعي، لا كخيار أيديولوجي أو رومانسي. غير أنّ فعاليتها باتت مشروطة بالبقاء ضمن معادلة دقيقة: ردع محسوب يمنع فرض وقائع نهائية، من دون الانزلاق إلى حرب شاملة قد تكون كلفتها باهظة داخليًا، خصوصًا في ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي يحدّ من قدرة الدولة والمجتمع على تحمّل صراع طويل الأمد.
صراع منخفض الوتيرة
في ضوء هذه المعطيات، يتّجه لبنان على الأرجح إلى مرحلة نزاع منخفض الوتيرة: لجنة ميكانيزم تضبط الإيقاع ولا تُنهي الاعتداءات، ديبلوماسية محدودة النتائج بفعل الانحياز الدولي، ومقاومة حاضرة كضمان أخير لمنع فرض أمر واقع دائم. الخطر الحقيقي لا يكمن في الاعتداءات بحدّ ذاتها، بل في تطبيعها وتحويلها إلى ممارسة اعتيادية تُفرض تحت غطاء دولي صامت.
ما العمل؟
لا يملك لبنان ترف الخيارات القصوى، بل هامشًا ضيّقًا لإدارة التوازنات. المطلوب أولًا تثبيت خطوط حمر واضحة، أبرزها حماية المدنيين وصون حرمة المنازل ومنع فرض أعراف أمنية جديدة تحت مسمّيات تقنية. موقف الجيش اللبناني الرافض دخول المنازل يشكّل في هذا السياق نقطة ارتكاز سيادية ينبغي البناء عليها سياسياً وديبلوماسياً.
في المقابل، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف دور الديبلوماسية، لا كأداة استجداء دولي، بل كمسار توثيق ومراكمة قانونية طويلة الأمد، تُحوّل الانتهاكات إلى ملفات ضغط مستمرة، حتى في ظل ميزان دولي مختلّ. داخليًا، يبقى التحدّي الأكبر في غياب سردية وطنية موحّدة، إذ يفتح التباين في توصيف ما يجري الباب أمام فرض وقائع جديدة بالتدرّج، لا بالصدمة.
خلاصة
في الخلاصة، لبنان لا يعيش حربًا شاملة، لكنه لم يعد في زمن الهدنة. إنّه زمن «الضغط الرمادي»: اعتداءات محسوبة، ديبلوماسية معطّلة، ومقاومة مضبوطة الإيقاع. والفيصل في المرحلة المقبلة لن يكون في ميدان واحد، بل في قدرة الدولة اللبنانية على منع التطبيع مع الانتهاك، ومنع تحوّل الاستثناء إلى قاعدة، والصمت الدولي إلى شرعية أمر واقع.