مع دخول البلاد مدار عطلتي الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة، يودّع لبنان السنة الجارية بفجوة كبيرة نشأت بين الحكومة والمؤسسات المالية الرسمية، وبين المصارف والمودعين، الذين عارضوا مشروع قانون سدّ الفجوة المالية الذي سيدرسه مجلس الوزراء اليوم، فيما تنشدّ الأنظار بين العيدين إلى الولايات المتحدة انتظاراً للقاء الخامس المقرّر بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لاستكشاف ما سيكون له من انعكاسات على الأوضاع في لبنان والمنطقة، بعدما أخذت لجنة «الميكانيزم» عطلتها حتى 7 كانون الثاني المقبل، تاركة إسرائيل تعتدي يومياً بطيرانها الحربي والمسيّر على الجنوب، والذي تسبّب أمس بسقوط شهيدين جديدين في بلدة ياطر.
كان اللافت أمس، أنّ رئيس الحكومة نواف سلام كشف في تصريحات صحافية، هي الأولى من نوعها، البرنامج الذي تتبنّاه الحكومة لحصر السلاح، إذ قال إنّ المرحلة التالية، بعد الانتهاء من مرحلة جنوب الليطاني، ستشمل تحديداً المنطقة الواقعة بين خطي الليطاني والأولي. وستليها بيروت وجبل لبنان، ثم يأتي دور البقاع والمناطق الأخرى. وهذه البرمجة تحسم الجواب عن الأسئلة الكثيرة المطروحة حالياً، في الداخل والخارج، والتي تُختصر بالآتي: ما المُنتظر بعد الانتهاء من المرحلة الأولى من تنفيذ اتفاق تشرين الثاني 2024 لوقف النار، خصوصاً في ما يتعلق بالجدل الدائر حول الاختيار ما بين «نزع السلاح» و«احتوائه» في مخازن تشرف عليها القوى الشرعية، علماً أنّ «حزب الله» ما زال حتى اليوم يتمسّك بحرّية عمله المقاوم في شكل تام.
وقالت مصادر سياسية لـ«الجمهورية»، إنّ «البرمجة التي حدّدها سلام، تمنح لبنان فرصة واسعة للتعاطي مع هذا الملف، بشكل ينزع الذرائع الإسرائيلية ويمنح لبنان فرصة للوسطاء الغربيين والعرب ليتمكنوا من كبح جماح إسرائيل وإجبارها على التزام الخطوات التي يطالب بها لبنان، أي الانسحاب من النقاط الخمس ووقف الاعتداءات وإتاحة المجال لبدء إعمار القرى وعودة الأهالي إليها وإعادة الأسرى».
ويُنتظر ان يكون مطلع السنة الجديدة موعد جلسة لمجلس الوزراء، يقيّم المرحلةَ الأولى من عملية حصر السلاح والتشديد على وجوب قيام إسرائيل بخطوات مقابلة لتجاوب «حزب الله» مع الحكومة في عملية حصرية السلاح جنوب نهر الليطاني التي ستنتهي خلال ايام.
ولوحظ أمس، أنّ إسرائيل واصلت تصعيدها، فاستهدفت بطيرانها المسيّر سيارة في بلدة ياطر قضاء بنت جبيل ما أدّى إلى استشهاد شخصين، فيما ألقت مسيّرة أخرى قنبلة صوتية على شاطئ رأس الناقورة، في وقت عثَر الجيش اللبناني على جهاز تجسس مموّه ومزود بآلة تصوير، في بلدة يارون وفككه.
وفي غضون ذلك، نُقل أمس عن مصادر في وزارة الخارجية الأميركية، انّ المفاوضات بين لبنان وإسرائيل تشكّل فرصة لمنع التصعيد في المنطقة، مشيرة إلى أنّ نجاح هذه المفاوضات مرتبط بقرارات سياسية داخلية واضحة في لبنان. وقالت إنّ واشنطن دخلت مرحلة جديدة في مقاربتها للملف اللبناني، معتبرة أنّ «لبنان دولة وليست ساحة للنزاعات، وأنّ الحكومة اللبنانية قادرة على اتخاذ القرارات، ولا يمكن فرض واقع بالقوة والسلاح».
«عام السلام»
في هذه الأجواء، وفي انتظار اللقاء المرتقب في 29 من الجاري في فلوريدا بينه وبين ترامب، التقى نتنياهو في تل أبيب أمس السيناتور الجمهوري الأميركي ليندسي غراهام، وعقد معه اجتماعًا رفيع المستوى، أعقبه مؤتمر صحافي مشترك حذّر خلاله غراهام من تطورات أمنية اعتبرها مقلقة، مؤكّدًا أنّ حركة «حماس» تعيد بناء قدراتها العسكرية في قطاع غزة، مضيفاً أنّها «تحاول ترسيخ حكمها ولن تتخلّى عنه في غزة». وأشار إلى «انّ حزب الله يواصل تعزيز ترسانته العسكرية في لبنان»، معتبرًا أنّ «هذه الوقائع تشكّل تهديدًا مباشرًا لاستقرار المنطقة». وقال: «إنّ حماس لا تزال تشكّل خطرًا داهمًا، فهي لا تنزع سلاحها بل تعيد تسليح نفسها وتحاول التمسك بالسلطة في غزة»، مضيفًا أنّ «حزب الله في الشمال يواصل جهوده لتصنيع أسلحة أكثر فتكًا، وهذا وضع غير مقبول». وقال: «من مصلحة لبنان والمنطقة تخلّي حزب الله عن سلاحه».
وعن رؤيته للمرحلة المقبلة، أوضح غراهام أنّ هدفه السياسي يتمثل في أن يكون عام 2026 «عام السلام والقضاء على الأشرار»، في تعبير يعكس مقاربة أمنية صارمة يروّج لها داخل أوساط الحزب الجمهوري حيال قضايا الشرق الأوسط.
من جهته، علّق نتنياهو قائلاً لغراهام: «أنت على حق في الحالتين»، مشيداً به وواصفاً إياه بـ«الصديق العظيم لإسرائيل».
ونقلت قناة «الحدث» عن مسؤول أميركي قوله، إنّ «حزب الله حافظ على شبكات تهرّب السلاح تعمل في سوريا وعبر الحدود مع لبنان».
وأكّد أنّ «إيران تستخدم كل الطرق الممكنة لإرسال الأسلحة إلى أذرعها بالمنطقة براً وبحراً»، مشيراً إلى أنّ «إيران تعتبر تسليح الأذرع والميليشيات الموالية لها من أولوياتها». وقال: «السلاح الإيراني يتمّ تهريبه إلى شمال شرق سوريا حيث تسيطر قوات قسد»، معلنًا أنّ «عناصر من «قسد» ومهرّبين ينقلون السلاح عبر شبكات من سوريا إلى لبنان».
مواقف
وعلى صعيد المواقف الداخلية، أشار عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب أمين شري في حديث اذاعي، إلى «انّ موقف حزب الله ثابت، بأنّ أي تفاوض مع الإسرائيلي هو تقديم مزيد من التنازلات فيما لن يستطيع لبنان انتزاع أي تنازل من إسرائيل، بدليل أنّ أي موفد أميركي لم يقدّم إلى لبنان أي تنازل إسرائيلي، وبالتالي فإنّ المطلوب اليوم هو حوار لبناني داخلي للتوصل إلى موقف موحّد يكون قائماً على أولوية حماية السيادة الوطنية عبر تحرير الأرض والأسرى ووقف الاعتداءات الإسرائيلية».
وأشار في هذا السياق، إلى انّ «حزب الله» سبق أن دعا إلى حوار وطني يوصل إلى استراتيجية دفاعية، ولم يتمّ التجاوب معه، وهو لا يزال منفتح على أي تفاهم مع الأطراف والمكونات اللبنانية، مؤكّداً انّ تنفيذ إجراءات 1701 من مسؤولية الدولة، وانّ «حزب الله» متسمك بأن تكون الدولة متحمّلة لمسؤولياتها كاملة بالحماية والرعاية.
وإذ أكّد شري تعاون «حزب الله» مع الجيش في خطة انتشاره جنوب الليطاني بشكل تام، شكّك في جدّية النيّة الدولية لدعم الجيش، خصوصاً مع ترحيل مؤتمر باريس إلى شباط، كاشفاً انّ السفيرة الأميركية السابقة قالت لأحد السفراء العرب، إنّ أي سلاح لـ«حزب الله» يجب تدميره بعد نزعه او بيعه للخارج.
ورداً على سؤال قال شري «أنّ لا تأكيد لزيارة مسؤول العلاقات الخارجية في «حزب الله» عمار الموسوي للسعودية، في انتظار صدور بيان رسمي عن المملكة أو عن العلاقات العامة لـ«حزب الله»، علماً انّ الشيخ نعيم قاسم أطلق مبادرة تجاه السعودية التي لم تردّ عليها حتى الساعة».
جعجع
وفي المقابل، ردّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع على الامين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم قائلاً له «شيخ نعيم، ليست هذه المرّة الأولى التي تدّعي فيها أنّ اتفاق وقف إطلاق النار يحصر مسألة جمع السلاح بجنوب الليطاني فقط، فيما تترك مسألة السلاح شمال الليطاني للبنانيين». وأضاف: «إنّ هذا الادّعاء يناقض تماماً ما ينصّ عليه اتفاق وقف إطلاق النار»، الذي «أكّدت مقدمته التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701»، وأنّ هذا القرار «يدعو أيضاً إلى التنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن السابقة، ولا سيّما تلك التي تنصّ على نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان».
فجوة... فجوتان
من جهة ثانية، يواجه مجلس الوزراء في جلسته اليوم امتحاناً صعباً، حين يبدأ في مناقشة مشروع قانون سد الفجوة المالية او الانتظام المالي، وسط عاصفة من الاعتراضات عليه.
وقالت اوساط مواكِبة لهذا الملف لـ«الجمهورية»، انّ «المفارقة تكمن في أنّ الطرفين المتقابلين وهما القطاع المصرفي والشريحة الأكبر من المودعين، يرفضان على حدّ سواء الصيغة المطروحة لردم الفجوة المالية، بسبب اقتناع كل منهما بأنّ المعالجة المقترحة ستتمّ على حسابه ومن كيسه.
واشارت الأوساط إلى «انّ هذا المشروع هو من بين أخطر وأدق الاختبارات التي تخوضها الحكومة منذ تشكيلها، إذ انّ مصير مئات آلاف اللبنانيين من المودعين مرتبط به، كذلك فإنّ مسار المستقبل المالي للبنان متوقف عليه». وشدّدت على «أنّ البوصلة التي ينبغي أن تحدّد وجهة التعاطي مع المشروع الحكومي هي حقوق المودعين التي تتوجب حمايتها واستعادتها»، منبّهة إلى «انّ من غير الجائز أن يدفع الضحايا ثمن الأزمة والحل».
وشدّدت الأوساط نفسها على ضرورة إخضاع مشروع القانون إلى درس معمّق وتمحيص دقيق في مجلسي الوزراء والنواب قبل إقراره، منعاً لأي دعسة ناقصة. وقالت: «صحيحٌ انّ معالجة الأزمة المالية والاقتصادية تأخّرت كثيراً منذ انفجارها عام 2019 بسبب التسويف الرسمي وتخبّط الحكومات المتعاقبة، لكن هذا لا يعني أن يتمّ بعد سنوات من الترقّب والصبر إنجاز حل مبتور ومشوه»، معتبرة «انّ قليلاً من الانتظار بعد للوصول إلى تسوية عادلة هو أفضل من سلق الامور سلقاً».
جمعية المصارف
في هذه الأجواء، أصدرت جمعية مصارف لبنان بيانًا أمس، أعلنت فيه «تحفّظها الجوهري واعتراضها الشديد على مشروع القانون المعروض على مجلس الوزراء والمتعلّق بالانتظام المالي ومعالجة الودائع»، معتبرةً «أنّ المشروع ينطوي على أحكام وإجراءات تشكّل، في مجملها، مساسًا غير مبرّر وغير مقبول بحقوق المصارف والمودعين، كما يفتقر إلى المعايير القانونية والمالية العلمية، وإلى السوابق المعتمدة في معالجة الأزمات المصرفية في دول أخرى».
وأكّدت الجمعية «أنّ أي مقاربة قانونية ومالية سليمة لمعالجة الأزمة، ولا سيما ما يتعلّق بما يُسمّى “الفجوة المالية”، تقتضي كشرط مسبق تحديدًا دقيقًا وشفافًا لحجم هذه الفجوة لدى مصرف لبنان، استنادًا إلى بيانات محاسبية مدقّقة وموحّدة». وشدّدت على «ضرورة إجراء محاكاة مالية واقعية، تأخذ في الاعتبار الحجم الفعلي للخسائر والقيمة الحقيقية للأصول غير المنتظمة، بما يُظهر بشكل واضح أنّ المشروع يؤدي إلى شطب الأموال الخاصة بالمصارف، وما يليها في سلّم تراتبية تحمّل الخسائر المنصوص عليه في القانون 23/2025، ليطال لاحقًا أموال المودعين».
ورأت الجمعية «أنّ التدابير والحلول المقترحة في المشروع لا تراعي القدرات الفعلية للمصارف على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المودعين»، مؤكّدةً رفضها «وضع المصارف في مواجهة مباشرة معهم، في ظل تهرّب الدولة من الوفاء بديونها المستحقة تجاه مصرف لبنان، وامتناعها عن تغطية العجز في ميزانيته». ولفتت إلى «أنّ المشروع لا يأخذ في الاعتبار موجودات مصرف لبنان التي تتجاوز 70 مليار دولار أميركي، ولا ضرورة تسييل جزء محدود منها لا يتجاوز 10 مليارات دولار أميركي، وهو ما من شأنه أن يسمح بتسديد فوري لكل ودائع صغار المودعين، بدل تحميل الخسائر التي تسبّب بها مصرف لبنان والدولة إلى المصارف والمودعين، خلافًا لمبادئ العدالة والمسؤولية القانونية».
وشدّدت الجمعية على «أنّ أي تعافٍ اقتصادي مستدام، وأي إعادة هيكلة فعّالة للقطاع المصرفي لا يمكن أن يتحققا من دون إعادة بناء الثقة بالنظام المالي وبالدولة كطرف ملتزم بالقوانين وبموجباته التعاقدية والمالية». وأكّدت «أنّ هذه الثقة لا يمكن استعادتها في ظل استمرار الدولة في التهرّب من تسديد ديونها والوفاء بالتزاماتها القانونية، كما لا يمكن بناؤها من خلال إجراءات تنطوي على استهداف المصارف ومساهميها بصورة رجعية، وبطريقة تحول دون إمكانية إعادة رسملة المصارف، بما يؤدي إلى تقويض حقوق المودعين وتعريض الاستقرار المالي والنقدي والأهلي لمخاطر إضافية».