تستمرّ المصارف اللبنانية في ممارسة إنكارٍ فاضح لدورها المركزي في الانهيار المالي وفي جريمة احتجاز أموال المودعين، متسلّحةً بخطابٍ وقح يتبرّأ من أي مسؤولية، ويرفض حتى الاعتراف بالحدّ الأدنى من التزاماتها القانونية والأخلاقية. فهي ترفض «قانون الفجوة المالية» لا دفاعاً عن حقوق المودعين، بل هرباً من تحمّل أي مسؤولية. فيما نرفض نحن هذا القانون، لأنّه يُشرعن تحميل المودعين كلفة الانهيار مجدّداً.
كشفت المصارف وجهها الحقيقي: مؤسسات لا ترى في المودعين سوى أرقام قابلة للمحو، ولا في الدولة سوى مظلّة لحمايتها من المحاسبة. هذا الإصرار على التنصّل لم يعُد مجرّد موقف تفاوضي، بل تحوّل إلى استفزازٍ سافر يضع المصارف في مواجهة مباشرة مع المجتمع.
وكأنّ المصارف لم يَكفِها احتجاز الودائع لسنوات، ولا تجفيف حياة المودعين حتى باتت تتصرّف اليوم بعقلية المالك لا الأمين، ساعيةً إلى تملّك هذه الودائع كاملةً عبر القوانين والبِدَع التشريعية. فهي لا تكتفي برفض كشف دفاترها، بل تعمل على تحويل السرقة إلى حقّ مكتسب، وعلى شطب أموال الناس نهائياً تحت عناوين «إعادة الهيكلة» و«توزيع الخسائر»، في محاولة فجّة لتصفية الودائع وإقفال الملف إلى الأبد. هكذا تنتقل المصارف من موقع الشريك في الجريمة إلى موقع المستفيد الأوحد منها، ضاربةً بعرض الحائط أي مفهوم للثقة أو العدالة أو النظام المالي.
والأوقح من كل ذلك، أنّ المصارف تخرج علينا بخطاب المظلومية، متقمّصةً دور الضحية، فيما ترفض في الوقت نفسه فتح دفاترها أو الكشف عن حساباتها. تدّعي أنّها مستهدَفة، لكنّها تتهرّب من أبسط متطلّبات الحقيقة، وتغلق أبوابها أمام أي تدقيق جدّي، كأنّ الثقة تُطلب بالكلام لا بالافعال، وكأنّ الجرائم المالية تُمحى بالبيانات الإعلامية لا بالمحاسبة. فمَن يرفض كشف حساباته لا يملك حق ادّعاء الظلم، بل يقدّم دليلاً إضافياً على ما يحاول إخفاءه. نُكرِّر، إنّ عدم كشف الحسابات هو إقرار بالجريمة.
من هنا، موقفنا واضح ولا لبس فيه: لا يجوز أن يمرّ أي قانون، ولا أن يُطرح أي حل، قبل الكشف الكامل على دفاتر المصارف وفتح حساباتها بلا استثناء. لا ثقة لدينا بأي أرقام ستُقدّمها المصارف أو المصرف المركزي، بعدما ثَبُت تلاعبهما بالوقائع لسنوات. التدقيق المطلوب ليس شكلياً ولا داخلياً، بل علنياً، شاملاً، وتحت أنوار الشفافية المطلقة، عبر لجان مستقلة تضمّ ممثلين عن المودعين أنفسهم. فالحقيقة لا تُصاغ في الغرف المغلقة، وحقوق الناس لا تُستعاد إلّا حين يطّلع الجميع على ما حصل.
لن تنتظم الأمور ولن يُكتَب لأي نهوض مالي أن يرى النور ما لم يُفتح الباب أمام إنشاء مصارف جديدة، لأنّ المصارف القائمة أثبتت، بالفعل لا بالقول، أنّها لم تتعلّم شيئاً ولم تُقدِم على أي خطوة جدّية لاستعادة الثقة المفقودة. فبدل أن نسمع عن خطط لإعادة الودائع أو تصحيح المسار، نسمع أنّهم يشترون أصولاً من عقارات وأراضٍ واستثمارات وحتى مصارف جديدة في الخارج، ويعيشون برفاهية عالية، فيما مأساة المودعين مستمرّة بلا خجل ولا مساءلة. هؤلاء فقدوا ثقة الناس نهائياً، وباتوا خارج أي دورة اقتصادية جديدة يمكن أن تُبنى في هذا البلد. من هنا، نحن مُصرّون على خيار فتح مصارف جديدة، بعقليات شفافة، وخاضعة إلى محاسبة حقيقية. وهم يدركون تماماً أنّ ولادة قطاع مصرفي جديد ونظيف تعني خروجهم حُكماً من المعادلة، ولهذا يقاومون هذا الخيار بشراسة.
والأسوأ من كل ما سبق، أنّ مآسي المودعين المستمرّة لا تحظى بأي تسليط ضوء جدّي، ولا تُعامل كمأساة وطنية ولا حتى كمادة إعلامية تستحق المتابعة. هؤلاء لم يعانوا في لحظة وانتهى الأمر، بل عانوا وما زالوا يدفعون يومياً ثمن «سرقة العصر»، التي خلّفت نتائج كارثية تسونامي مالي-اجتماعي ضرب حياة الناس بلا رحمة. هناك مَن حُرم من الطبابة وخسر حياته بصمت، وحُرم أولادهم من التعليم اللائق، وعائلات سُلِبت جنى العمر وتُركت تواجه الذلّ والعوز. وعلى رغم من ذلك، تستمر المصارف في التمنّن على المودعين بمبالغ شهرية هزيلة، فيما تُقابل هذه المآسي بتجاهل فاضح، كأنّها لم تكن. مآسي المودعين تطول لتتسع بمجلّدات، لكن نكتفي بهذا القدر البسيط.
ونتوجّه اليوم إلى المسؤولين في الدولة اللبنانية، إلى مَن يملكون القرار ويتحمّلون واجب إنقاذ ما تبقّى من عدالة وكرامة، إعلموا أنّ فشلكم في إعادة الحقوق ليس مجرّد إخفاق إداري أو سياسي، بل جريمة تاريخية ستلاحق أسماءكم إلى الأبد. ستُسجَّلون في ذاكرة هذا البلد لا كمسؤولين عجزوا، بل كمَن شرّعوا السرقة، وغطّوا النهب، وتركوا الناس تموت فقراً ومرضاً وذُلاً. وإن كنتم لا تخشون لعنة التاريخ ولا يهمّكم كيف سيذكركم الناس، فلا تورّثوا أبناءكم وأحفادكم هذا العار، لأنّ الذاكرة الجماعية لا تموت، ولأنّ «سرقة العصر» ستبقى جرحاً مفتوحاً يُسائل الأسماء واحداً واحداً، ويُعرّي مَن اختار السارقين على حساب الإنسان.