ليس بسيطاً ما تقوم به إسرائيل على ثلاثة محاور: لبنان وسوريا وفلسطين. إنّه يؤسس للشرق الأوسط الجديد الذي أعلن عنه صراحة بنيامين نتنياهو، وكذلك الأميركيون، كل وفق مفهومه. ولكن، هل يدرك أهل لبنان وسوريا وفلسطين، أصحاب الأرض والقضية، ما هو هذا «الجديد» الذي ينتظرهم، أم إنّ نزاعاتهم الصغيرة تمنعهم من التفكير؟
قالها نتنياهو مراراً: لن ننسحب من سوريا إلّا بضمانات أمنية تمتد حتى دمشق. وفي لبنان، لن نقبل إلّا بنزع السلاح كاملاً، وبمنطقة عازلة في الجنوب، البعض يقول إنّها ستمتد حتى الليطاني، فيما يعتقد محللون، أنّ طموح إسرائيل الحقيقي هو إيصال الترتيبات الأمنية إلى خط الأولي. وفي غزة، حيث انتهت عملية «طوفان الأقصى» بدمار كامل للقطاع ومئات آلاف القتلى والجرحى والمعوقين والمفقودين، وتهجير نحو مليون نسمة، خسرت «حماس» نفوذها، ويفكّر الأميركيون والإسرائيليون في تحويل القطاع منطقة اقتصادية، لا سيادة فلسطينية عليها. والعينُ على الضفة الغربية أيضاً.
ما تريده إسرائيل لا تخفيه: تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى. والعامان المنصرمان كانا مثاليين لتحقيق هذا الهدف، لأنّ الحرب التي أطلقتها «حماس» و»حزب الله» منحتها الذريعة على جبهتين، وأما على الجبهة الثالثة في سوريا فتمّ إيجاد الذريعة سريعاً بعد إسقاط بشار الأسد وتحريك الحساسيات الطائفية النائمة.
إسرائيل تريد تفجير كيانات الشرق الأوسط بتحريك الغرائز الطائفية والعرقية. وهي لذلك تستغل التقاطع مع قوى إقليمية ودولية، وواقع التشرذم والصراع داخل الكيانات التي تحيط بها: لبنان، سوريا، فلسطين خصوصاً. ويواجه الشرق الأوسط لحظة انهيار النموذج الإمبراطوري القديم، وظهور نموذج جديد قوامه التقاسم القسري والتفتيت.
القوى الإقليمية والدولية تتصارع في الشرق الأوسط، والعرب هم المادة الخام الموضوعة على الطاولة للتقاسم. والنزاعات داخل الكيانات بين السنّة والشيعة والدروز والمسيحيين والأكراد هي في الواقع انعكاس لصراعات الأقوياء، الذين يستخدمون الانقسامات الهوياتية الداخلية أدوات للسيطرة. وفي هذا المناخ، أتيح لإسرائيل أن تقضي على القضية الفلسطينية، وهي على وشك تفجير حدود الكيانات المحيطة بها، في لبنان وسوريا والأردن، مستغلة لحظة تاريخية قد تسمح لها بـ»مأسسة» الهيمنة على المجال الحيوي الإقليمي، في مشروع إسرائيل الكبرى.
الكيانات المحيطة بإسرائيل تغرق اليوم في صراعات طائفية ومذهبية، وعرقية أحياناً كما في نموذج سوريا- الأكراد، وكلها تعاني فقدان الثقة في الدولة الجامعة (في سوريا بدا الأمر أكثر وضوحاً) وكلها عادت إلى هويات ما قبل الدولة، الهويات الطائفية والعرقية، حيث يتعزز «التضامن الأوتوماتيكي» المرتكز إلى التشابه والقرابة، كالمذهب والطائفة والدين والعرق، بدلاً من «التضامن العضوي» المبني على فلسفة الاعتماد المتبادل، كما تقتضي المواطنة في الدول الحديثة.
ومعنى ذلك، أنّ الشرق الأوسط يتخذ حالياً الاتجاه المعاكس لمسار التقدّم الحضاري، ويستعد لبناء كيانات رجعية تقوم على العصبيات والغرائز البدائية، بدلاً من المبادئ والعقل والمفاهيم الراقية. ولذلك، يزداد التمسك بالهويات الصغيرة، ويستعد الجميع للقتال من أجلها. فالـ«الآخَر» في هذه الحال يصبح مخيفاً وعدواً يجب القضاء عليه، فتنفتح دوامة العنف التي لا تنتهي، كما يجري غالباً في الدول التي تُصاب بانهيارات حضارية. وفي هذه الحال من الغرائزية عندنا، جميع المتقاتلين يرفعون شعار «التوكل على الله»، الله الخاص بكل منهم طبعاً. وبين هذا التوكل الإيماني والتقاتل الغرائزي، تكمن شيزوفرينيا الجماعة التي يتّجه إليها الشرق الأوسط بسرعة هائلة هذه الأيام. ومن لا يصدّق، فليتأمّل جيداً مسار الأحداث خصوصاً في سوريا وجنوبها.
في خضم هذا الجنون، يبرز السؤال: هل تصمد بقعة الضوء الوحيدة، أي لبنان، باعتبارها الحصن الوحيد الباقي لشرق الجمال والحضارة والفكر، خصوصاً بعدما أعادت زيارة البابا لاوون الرابع عشر تلميع صورة للبنان كان الغبار يكسوها إلى حدّ الإمحاء؟ وهل يمكن الحديث عن فرصة أخيرة في لبنان للعودة إلى العقل، في لحظة فشل هذا الخيار على مستوى الشرق الأوسط كله؟
لبنان نقيض لفكرة الدولة القومية أو الدينية أو المذهبية «النقية» التي يتوجّه إليها الشرق سريعاً. وصحيحٌ أنّ تجربة التعايش التي يقوم عليها لبنان قد انفجرت بأهلها مراراً، وما زالت، إلّا أنّها تبقى مجال الاختبار الوحيد للتفاعل الحرّ في الشرق الأوسط، بمحاولة الحفاظ على الهويات المختلفة جذرياً، أي المسيحيين والمسلمين، السنّة والشيعة، والدروز والعلمانيين، داخل بنية سياسية واجتماعية واحدة. وهذا التعدد هو التحدّي الوجودي الوحيد مقابل مبدأ القوة المطلقة التي ينقاد إليها الشرق. وقد يكون من مصلحة الكثير من القوى المهيمنة إسقاط المختبر اللبناني وتفكيكه، ليتمكن من فرض مخططاته التوسعية. وهنا يمكن الحديث عن إسرائيل، كما عن إيران وسواهما من ذوي الاتجاهات الإمبراطورية، الظاهرة والمكبوتة.
في هذا الشرق المتّجه إلى الحماقة، لبنان هو «الهيكل المعرفي». وانهياره يعني إلغاء الشرط المعرفي الأساسي، الذي يُختصر في أنّ التعدد يُنتج الحضارة، فيما سقوطه يقود إلى الصراع. وانهيار لبنان- إذا حصل- سيكون تصديقاً دامغاً على الفرضية القائلة إنّ «حروب الطوائف والغرائز هي القانون الطبيعي الوحيد الصالح للتطبيق في الشرق».
وفي معنى آخر، إنّ صمود لبنان ربما يكون العلامة الأقوى لإمكان إنقاذ الشرق الأوسط من قَدَره. وإذا سُمح للبنان، هذا الكيان الفلسفي، بالانهيار والتفكّك الكلي، فسيكون ذلك بمثابة إعلان الموت الحضاري للشرق بأكمله، وتحوّله النهائي مجردَ ساحة، ومجموعة من الكيانات المتصارعة التي تحكمها القوة المطلقة والوحشية المغلّفة بالتدين، حيث الوحوش جميعاً يتوكّلون على الله ويثقون في نصره لهم ونصرهم له.