ما أن أقلعت طائرة البابا لاوون الرابع عشر من بيروت حتى انقلب المشهد السياسي بنحو مذهل، وانتقل لبنان سريعاً من المسار الروحي والسياسي الذي واكب الزيارة بأيامها الثلاثة، ليدخل مداراً جديداً عنوانه مفاوضات الناقورة عبر لجنة «الميكانيزم». وهو أمر ارتبط بالقرار الذي صدر بتسمية السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني المفاوض، لتّتجه الأنظار إلى المنحى الذي ستتخذه التطورات، في ظلّ الاعتقاد أنّ السباق بين الخيارات الديبلوماسية والعسكرية ما زال قائماً، لكنه بات يميل في هذه المرحلة لمصلحة الأولى ولو إلى حين.
عند هذه الملاحظات الدقيقة التي لا يمكن تجاهلها، بقيت الاجتهادات مطروحة على أكثر من مستوى، وخصوصاً في ظلّ المعادلة التي أطلقها السفير الأميركي ميشال عيسى من عين التينة، عندما برّر الاستراتيجية الإسرائيلية التي تفصل بين المفاوضات الجارية مع الدولة اللبنانية والحرب المستمرة على «حزب الله»، من دون أن يكشف عن قرار بلاده بتبنّي وجهة النظر هذه أو العكس. الامر الذي دلّ إلى أنّ المفاوضات ستبقى تحت النار، وهذا لا علاج له في المدى المنظور، وخصوصاً إن بقي الجو الدولي يقدّم مسألة حصر سلاح «حزب الله» على أي خطوة أخرى يحاول لبنان تقديمها على سلّم أولويات الولايات المتحدة الاميركية ومعها للمجتمعين العربي والغربي والأمم المتحدة، التي تجهد لتهيئة الأرضية الصالحة التي تجعلها مطمئنة إلى الوضع الذي سينشأ في الجنوب اللبناني بعد تصفية وجودها فيه ومغادرته.
على هذه الخلفيات، تعدّدت الاسئلة، التي تحاكي السيناريوهات المختلفة بمداها القريب والبعيد، في انتظار تبدّد الغبار الكثيف المنبعث من أكثر من جهة، ويغلّف المواقف الغامضة من الخطوات المقترحة لترتيب العملية الانتقالية في الجنوب، للتحول من مرحلة «تجميد العمليات العدائية» إلى الترتيبات الخاصة بوقف النار، وتأمين الانسحاب الإسرائيلي من النقاط المحتلة والإفراج عن الأسرى اللبنانيين، تمهيداً للبحث في آلية تؤدي لبدء الإعمار، في موازاة الإجراءات الخاصة بتثبيت الحدود الدولية على ما كانت عليه منذ إيداعها الأمم المتحدة في العام 1923. وهي خطوات نظرية بعيدة كل البعد عن مرحلة تطبيقها – لئلا يُقال إنّها مستحيلة - إن بقيت المواقف على حدّتها وجمودها القاتل. وهو ما قاد إلى صعوبة تقدير ما نحن مدبرون عليه من خطوات، وتحقيق ما أُريد من المفاوضات في هذه المرحلة بالذات. وتوفير الظروف التي تسهّل عبورها في شكل طبيعي وسلس بعيداً عمّا يعوق الخطط لتخفيف حدّة النزاع في أكثر من منطقة وخصوصاً في قطاع غزة ولبنان وسوريا.
وانطلاقاً مما تقدّم، ترسم تقارير ديبلوماسية تحدثت عن السيناريوهات المتوقعة المقبلة، خريطة الطريق الداعمة لهذه النتيجة، استناداً إلى بعض المؤشرات ومنها:
- تراهن واشنطن هذه المرّة اكثر من أي وقت مضى، على اللقاء المنتظر في نهاية الشهر الجاري مع نتنياهو، والذي سيشكّل محطة أساسية لتوفير الظروف المؤدية إلى استكمال خطة ترامب في قطاع غزة والمنطقة، وهذا يتطلّب تعهداً من إسرائيل بالتزام ما تعهّدت به في «تفاهم شرم الشيخ» الخاص بغزة، ومنح لبنان مزيداً من الوقت لإستكمال عملية نزع سلاح «حزب الله»، بما يؤدي إلى تحقيق رغبة ترامب في عدم إشعال حرب جديدة في المنطقة وأبعد منها.
- تسعى واشنطن في المقابل إلى ممارسة الضغوط المطلوبة لتركيب الإدارة الجديدة لقطاع غزة، بما فيها تشكيل «مجلس السلام» والقوة الأمنية التي سيستند اليها، توطئة للانتقال إلى المراحل المؤدية إلى إعادة الإعمار وترتيب العلاقات بين تل ابيب والقطاع، ولجم أي خطة إسرائيلية لضمّ الضفة الغربية، كما تعهّد ترامب لمجموعة الدول الخليجية والإسلامية التي ساهمت في إطلاق مبادرته بنقاطها العشرين، قبل الخوض في استكمال برامج التطبيع إن تحققت الخطوات المؤدية إليها.
- لا يمكن للإدارة الأميركية تحقيق أي خطوة تريدها في اي ملف بمفرده. ولذلك فهي تسعى إلى توافق اكبر على مختلف المسارات، ومنها الموافقة الإسرائيلية المسبقة على المشاركة التركية في اي قوة أمنية في قطاع غزة. وهذه عملية يمكن ان تخفف من حدّة التشنج بين أنقرة وتل ابيب في سوريا ايضاً. وكل ذلك يجري في موازاة الإسراع في الترتيبات الخاصة بلبنان، بالتنسيق والتفاهم مع الخماسية الديبلوماسية التي ستتحرك مجدداً لاستكمال ما تقرّر من خطوات، بعد أن تسلّم السفير الأميركي الجديد في لبنان ميشال عيسى مهماته.
واستناداً إلى هذه المؤشرات وغيرها من الملاحظات التي عززت التقدّم على المسارات الديبلوماسية في سباقها المحموم مع نظيرتها العسكرية، فإنّ الإدارة الأميركية تدرك انّ عليها تقييم المرحلة المقبلة استناداً إلى نظرية تقول بتأمين الإطار الذي يضمن تسوية العلاقات بين شركائها في المنطقة، وخصوصاً بين القوتين الإسرائيلية والتركية، التي إن تحققت يمكن ان تقود حتماً إلى توسيع نطاقها لتطاول لاحقاً مصر والأردن ومعهما الدول الخليجية التي تعاونت في ترتيبات غزة، لتتلاقى مع ما يجري ترتيبه في لبنان وسوريا في الطريق إلى تعميم نتائج «قمة شرم الشيخ» على أزمات المنطقة التي تناسلت بفعل ترددات حرب القطاع وتوسعت في اتجاهات مختلفة.
على انّه لا بدّ من النظر بكثير من التحفظ والتروي إلى «النقلة النوعية» في المفاوضات اللبنانية ـ الإسرائيلية بعد توسيع إطارها إلى المستوى المدني، والتي ستُستكمل في 19 الجاري. وهو موعد وضع تحت الرعاية الغربية والعربية والخليجية المشدّدة، وإن عرف اللبنانيون تلقف هذه الرعاية والإفادة منها إلى الدرجة القصوى، قد ينفد البلد مما لا يريده أحد له في الداخل والخارج.
فهل سينجح اللبنانيون في إدارة المرحلة بأدق ما هو مطلوب من إجراءات، تُخرج الأزمة من عنق الزجاجة إلى حصاد نتائجها الإيجابية.