ما إن أقلعت طائرة الحبر الأعظم من بيروت باتجاه روما، معلنة إنتهاء الزيارة التاريخية للبابا لاوون إلى لبنان، حتى سارع رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بالاتصال بالسفير سيمون كرم، ودعوته إلى اجتماع طارئ وفوري في قصر بعبدا. وفي هذا الإجتماع، أبلغ إليه مهمّة تكليفه رئاسة الوفد اللبناني المفاوض في لجنة «الميكانيزم»، وطلب منه حضور اجتماعها المقرّر قبل ظهر اليوم التالي. كرم الذي فوجئ بالقرار، رحّب بتكليفه، لكنه طلب مهلة لكي يستعد ويدرس ملفاته. لكن الرئيس عون أصرّ عليه للمشاركة في الاجتماع، وحضّر له مواعيد فورية مع قيادة الجيش والضباط الأعضاء في لجنة «الميكانيزم»، لوضعه في الأجواء المطلوبة.
وكان الرئيس عون قد وضع على هامش زيارة البابا (وتحديداً بعد قداس الواجهة البحرية) الرئيسين نبيه بري ونواف سلام في أجواء قراره والإسم المقترح لرئاسة الوفد والذي نال موافقتهما.
طبعاً فإنّ خيار تكليف مدني برئاسة الوفد اللبناني كان قد حظي بوقت كافٍ من التشاور بين أركان الدولة خلال الأسابيع التي سبقت. ويومها أرسلت قيادة «حزب الله» رسالة اعتراض شديدة اللهجة، تعارض الصيغة التفاوضية المطروحة، عبر الإعلام، وتمّ توجيهها إلى الرؤساء الثلاثة. وكان واضحاً يومها أنّ المقصود الفعلي من رسالة «حزب الله» هو الرئيس بري. ولأنّ الإعتقاد الذي ساد يومها بأنّ البيان «كُتب بحبر إيراني»، فإنّ الأوساط المراقبة أدرجت زيارة معاون بري النائب علي حسن خليل لطهران، في إطار استكشاف حقيقة القرار الإيراني وأفق المفاوضات الإيرانية ـ الأميركية، ومخاطرعودة الحرب على لبنان. لكن خليل لم يحصل على أجوبة حاسمة على ما يبدو، وإنّ المفاوضات الإيرانية ـ الأميركية لا تشهد أي تطورات أو تقدّم يمكن البناء عليه. في هذا الوقت ازدادت الضغوط على لبنان. عسكرياً من جهة إسرائيل، والتي وصلت إلى اغتيال المسؤول العسكري الأول في «حزب الله»، وسياسياً من الجانب الأميركي، والذي بلغ ذروته مع دفع قائد الجيش إلى إلغاء زيارته الرسمية الأولى لواشنطن، في خطوة شكّلت سابقة في تاريخ العلاقات بين واشنطن والجيش اللبناني. وترافق ذلك مع التحذير الخطير مما تحضّره إسرائيل، والذي حمله وزير الخارجية المصري إلى المسؤولين اللبنانيين. أضف إلى ذلك، الواقع الإنتخابي المأزوم لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهو ما يجعله مندفعاً أكثر لصرف أنظار شارعه إلى حرب في لبنان، يأمل في أن تمنحه نقاطاً إنتخابية رابحة.
وفي المقابل، فإنّ للبنان ثلاثة مطالب ملحّة ومحقة، لم تبد إسرائيل أي إشارة إلى التجاوب مع أي منها، وهي وقف الإعتداءات اليومية، والإنسحاب من النقاط الخمس وإطلاق الأسرى اللبنانيين. ويُنقل عن الرئيس عون قوله إزاء المشهد القاتم، أنّه «إذا بقينا جامدين في الدائرة الضيّقة التي نقف وسطها فإننا لن نحقق أي نتيجة لناحية مطالبنا الثلاثة، وستبقى النتيجة صفر، كما أننا نكون نسمح برفع منسوب الخطر علينا. وربما إذا سلكنا درب التفاوض، فهنالك احتمال 50% أن نحقق شيئاً. وما بين الصفر والـ50% من المنطقي أن نختار تجربة الخيار الثاني».
وما إن أعلن لبنان عن تعيين سيمون كرم رئيساً للوفد التفاوضي حتى بدأ المناخ الدولي بالتبدّل، وظهرت الإشارات الإيجابية مكان السلبية. وكان هذا واضحاً مع المرونة التي طغت على كلام الموفدة الرئاسية الأميركية مورغان أورتاغوس خلال زيارتها لبيروت إلى جانب سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن، على رغم من أنّها كانت مقلة في مداخلاتها. فهي أبدت ترحيب بلادها بالخطوة اللبنانية. لكن الرئيس عون لفتها إلى القصف الجوي الإسرائيلي العنيف الذي طاول أماكن سكنية في الجنوب في اليوم التالي. وأضاف، أنّ ما حصل يشكّل رسالة سلبية من نتنياهو، خصوصاً أنّ الكشف على الأماكن المستهدفة أظهر أنّها كلها أهداف مدنية، ولا وجود لأي شيء عسكري يخص «حزب الله» كما ادّعت إسرائيل. وأبدت أورتاغوس تفهمها لكلام عون، وأضافت أنّها وجّهت لوماً لنتنياهو بإسم إدارتها على ما حصل، وأنّ نتنياهو قال إنّه سيحرص على تجنّب ما حصل.
وخلال الأسابيع الماضية، كانت إسرائيل قد اشتكت إلى إدارة ترامب بأنّ تهريب الأسلحة لـ«حزب الله» لا يزال قائماً، ليس فقط عبر الحدود البرية إنما أيضاً عبر المعابر البحرية وتحديداً مرفأ طرابلس، وهو ما نفاه لبنان، طالباً تقديم إثباتات حول ذلك، وهو ما لم يحصل.
في الواقع، تدرك واشنطن أنّ الحدود البرية أصبحت مقفلة تماماً أمام أي تنقّل بالسيارات والشاحنات، وأنّ المجال الوحيد الذي لا يزال مفتوحاً هو عبر المشاة أو الدواب في أفضل الحالات، عبر استغلال التعرجات الجغرافية الصعبة. وهذا لا يسمح بحصول تهريب واسع للسلاح كما تدّعي إسرائيل. أضف إلى ذلك فهي تقوم بمراقبة دائمة عبر الجو، ولكانت قصفت أي تحرّك تشتبه به. وفي كل الحالات فإنّ لبنان ماضٍ في استكمال نشر أبراج المراقبة الحديثة والمزودة قدرات تقنية متطورة، للإمساك بأي نشاط غير شرعي.
وفي الإشارات الإيجابية التي بدأت بالوصول إلى لبنان، موافقة واشنطن على بيع الجيش اللبناني أسلحة بقيمة 90 مليون دولار. ولكن الأهم، هو ذلك الإجتماع الرباعي الذي سيُعقد في باريس في 18 الشهر الجاري بين اورتاغوس ومستشارة الرئيس الفرنسي آن كلير لوجاندر والموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان، إضافة إلى قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل، وهي المشاركة اللبنانية الأولى في هذا النوع من الإجتماعات. وعدا أنّ اللقاء سيبحث في الوضع في جنوب لبنان، إلّا أنّ مشاركة العماد هيكل تعطي إشارة إيجابية تجاه الجيش. وتبقى الإشارة الأكثر تعبيراً، حيث أنّ الإتصالات ناشطة بين بعبدا وواشنطن لترتيب زيارة رسمية للرئيس عون إلى البيت الأبيض للقاء ترامب بداية السنة الجديدة.
وفي واشنطن، نشر البيت الأبيض وثيقة «إستراتيجية الأمن القومي»، وهو ما يحدث عادة عند وصول إدارة جديدة، وبهدف تحديد أولوياتها الأمنية. وهذه الوثيقة التي تتألف من 33 صفحة ونُشرت على الموقع الرسمي للبيت الأبيض، أعطت الأولوية للجزء الغربي من الكرة الأرضية، أي للقارتين الأميركية والأوروبية. وسجّلت تراجع الإهتمام بالشرق الأوسط «ليس بسبب فقدان المنطقة لأهميتها، ولكن لأنّها لم تعد مصدراً لأزمات متلاحقة، وباتت تتحول تدريجياً ساحة شراكة وصداقة واستثمار». وفي الوثيقة، إنّ الشرق الأوسط شكّل أولوية مطلقة للسياسة الخارجية الأميركية على مدى نصف قرن لأسباب تعود لأنّه المصدر الأهم للطاقة في العالم، وساحة رئيسية للتنافس بين القوى العظمى، وبؤرة نزاعات كانت تهدّد بالتمدّد إلى بقية دول العالم وصولاً إلى الأراضي الأميركية. ووفق الوثيقة فإنّ هذه العناصر لم تعد قائمة. فلقد تنوعت مصادر الطاقة بمقدار كبير، وأصبحت الولايات المتحدة مجدداً مصدراً صافياً للطاقة. كما تراجع التنافس بين القوى العظمى إلى مستوى التنافس بين دول كبرى في المنطقة «مع احتفاظ واشنطن بموقعها الأكثر تفوقاً، مدعوماً بجهود الرئيس ترامب في إعادة إحياء التحالفات الأميركية في الخليج مع الشركاء العرب وإسرائيل». وأضافت الوثيقة، أن حجم النزاع أقل مما يوحي به المشهد الإعلامي. واعتبرت أنّ إيران ضعفت بشدة بفعل عملية «مطرقة منتصف الليل» الأميركية، والتي أدّت إلى تراجع كبير في برنامجها النووي. وفي هذا الجانب خلصت الوثيقة إلى أنّ هنالك مصلحة أميركية واضحة في توسيع «اتفاقات إبراهيم»، لتشمل دولاً جديدة في المنطقة. وإنّ المنطقة تتحول تدريجياً ساحة شراكة وصداقة واستثمار، وهو ما يجب تعزيزه.
وهذه الوثيقة تعطي انطباعاً واضحاً بأنّ واشنطن حققت أهدافها في المنطقة لجهة أنّها أصبحت صاحبة النفوذ الأول، وأنّها تريد استكمال مسارات الصلح والتطبيع مع إسرائيل.
لكن هذه الصورة لا يجب أن تبعث بالضرورة الراحة والإسترخاء في لبنان. ذلك أنّ واشنطن تريد تسوية سلمية بين لبنان وإسرائيل، كما أنّ انتقال التركيز الأميركي إلى مناطق أخرى سيكون لمصلحة إسرائيل، التي ستعمل على الإستفادة من هذا الواقع الجديد. وهو ما يعني أنّ إعادة تسخين الساحة اللبنانية يصبح وارداً، وحيث أنّ واشنطن لن تعتبره على مستوى حرب تهدّد التوازنات الجديدة التي تمّ إرساؤها. فتل أبيب متفاهمة مع واشنطن على أنّ استكمال مشروع إعادة تشكيل المنطقة يستوجب إخراج التأثير الإيراني من لبنان. وترجمته بسحب السلاح من «حزب الله» وقطع الشرايين المالية بينهما. وداخل إدارة ترامب هنالك وجهتا نظر حول سبل تحقيق ذلك. الأولى وتدعو لحسم المسألة بالضربة القاضية، أي توجيه ضربة عسكرية عبر عمليات جراحية، خصوصاً أنّ الظروف أصبحت ملائمة لذلك. ويؤيّد هذا التوجّه الحكومة اليمينية الإسرائيلية، ويلاقيها ضباط وعسكريون في الجيش الأميركي والأمن القومي وشخصيات داخل الإدارة. أما وجهة النظر الثانية فتتحدث عن كسب المعركة بالنقاط وليس بالضربة القاضية، خشية انفجار التركيبة الطرية العود والتي نشأت لتوها، وإدخال لبنان في فوضى عارمة ستحسن طهران استغلالها وتوظيفها لمصلحتها، كما أنّها ستؤدي إلى خربطة الوضع الناشئ في سوريا، وبالتالي إجهاض كل ما تحقق. وصحيح أنّ الحسم بالنقاط سيأخذ وقتاً أطول لكنه مضمون. وإنّ البرنامج الذي وضعه الجيش اللبناني لنزع السلاح يجسّد هذه النظرة في شكل ممتاز، ولكن الفريق الأول يعتبر أنّ إيران تراهن على عامل الوقت لإعادة بناء قوتها، وهذا ما كان يحصل في السابق. ويجيب أنصار الفريق الثاني، أنّ الجغرافيا تغيّرت والظروف التي كانت قائمة في سوريا لم تعد موجودة، وقوة إيران تبدّدت والتأثير على الساحة الفلسطينية تبدّد، وكل ذلك لم يعد يعطي إيران أوراقاً قادرة على توظيفها في إطار الرهان على عامل الوقت. كما أنّ إسرائيل باتت تسيطر في المطلق على السماء اللبنانية والسورية، وهي تتدخّل وتضرب عند اشتباهها بأي أمر.
وهذا النقاش يعطي انطباعاً واضحاً بأنّ نزع سلاح «حزب الله» عبر العمليات العسكرية لا يزال قائما، خصوصاً إذا ما عطفنا عليه واقع نتنياهو الإنتخابي المأزوم. فاستطلاع القناة 12 الإسرائيلية أعطى الليكود 25 مقعداً مقابل 21 مقعداً لحزب نفتالي بينيت. أما استطلاع «يسرائيل هيوم» فأعطى الليكود أيضاً 25 مقعداً، ولكن في مقابل 23 مقعداً لحزب بينيت. والأخطر أنّ استطلاع القناة 12 أظهر أنّ 45% من المستطلعين يؤيدون شن عملية عسكرية واسعة النطاق ضدّ «حزب الله»، في مقابل 38% يؤيّدون الوسائل الديبلوماسية، و17% لم يعطوا رأيهم. وهذا يعكس مناخاً داخلياً لمصلحة عملية عسكرية في لبنان. في وقت تراجع تأييد نتنياهو لترؤس الحكومة المقبلة إلى 38%، وهو تراجع بمقدار نقطتين عن الإستطلاع السابق. وهذا يترافق مع جدل داخلي عنيف حول قانون الخدمة العسكرية، والمطالبة بلجنة تحقيق لتحديد المسؤوليات عمّا حدث في السابع من أكتوبر. كل ذلك يجب أن يدفع لبنان إلى حسابات متروية لا متهورة.
بعدما وجّه الرئيس عون دعوة للبابا لزيارة لبنان والذي قبلها بسرعة، وخلال مشاركته في احتفال ديني في عنايا، إلتفت عون إلى السفير البابوي باولو بورجيا وقال له: «من المهمّ جداً أن يكون مزار مار شربل محطة من محطات زيارة البابا إلى لبنان». أعجبت بورجيا الفكرة ونقلها إلى الكرسي الرسولي، وكانت زيارة عنايا وركوع البابا أمام ضريح شفيع لبنان وطبيب العالم.
وعندما يستذكر الرئيس عون محطة عنايا خلال زيارة البابا، يعلو التأثر محياه قبل أن يقول وهو يستعرض المخاطر التي تحوط بلبنان: «إتكالي كان دائماً في حياتي على مار شربل، وأنا أستمدّ قوتي وعزمي منه. وأنا كليّ إيمان بأنّه سيشفي لبنان».