اليوم الثاني من منتدى الدوحة: رسائل متقاطعة من بيروت إلى دمشق في لحظة إقليمية دقيقة
اليوم الثاني من منتدى الدوحة: رسائل متقاطعة من بيروت إلى دمشق في لحظة إقليمية دقيقة
Monday, 08-Dec-2025 06:39

في اليوم الثاني من أعمال منتدى الدوحة، بدت القاعة الرئيسية أشبه بغرفة عمليات سياسية مفتوحة على كل احتمالات الإقليم. حوارات مكثفة، جلسات ثنائية على الهامش، وخطابات محسوبة بدقّة، أقلّ ما يُقال فيها، إنّها عكست حجم التحوّلات الجارية من بيروت إلى دمشق، ومن طهران إلى تل أبيب. فإذا كان اليوم الأول قد طغى عليه الطابع الاستطلاعي، فإنّ اليوم الثاني حمل رسائل أكثر مباشرة، وملامح اصطفافات جديدة، تحاول أن تتشكّل على إيقاع أزمات متراكمة.

اللافت في جلسات اليوم الثاني، أنّ النقاشات خرجت من العموميات نحو عناوين السيادة والاستقرار وإعادة بناء الدولة، مع تركيز واضح على المسارَين اللبناني والسوري، ودور الفاعلين الدوليِّين في رسم حدود المرحلة المقبلة. وفي هذا السياق، برزت مواقف كل من رئيس الحكومة الدكتور نواف سلام، الموفد الأميركي توم برّاك، وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، بالإضافة إلى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، كعناوين سياسية تحمل في طياتها أكثر ممّا يُقال صراحةً.

 

الدوحة منصة تهدئة مشروطة

منذ الصباح الباكر، عكست أجواء المنتدى انتقالاً واضحاً من مرحلة «إدارة الأزمات» إلى محاولة «تطويق تداعياتها». الأحاديث في الكواليس لم تعُد تكتفي بالسؤال عمّا يجري، بل عن الكلفة، وعن شروط العبور إلى الاستقرار. وقد بدا أنّ الدوحة، التي راكمت خلال السنوات الماضية موقعاً تفاوضياً متقدّماً، تسعى إلى تكريس نفسها منصة دائمة لا فقط للوساطة، بل أيضاً لصياغة أطر سياسية واقتصادية لما بعد الصراعات.

جلسات اليوم الثاني طرحت أسئلة مباشرة عن مستقبل الدولة الوطنية في المشرق، وحدود أدوار الفواعل غير الدولتية، وإمكان إعادة إنتاج تسويات قابلة للحياة.

وسط هذا المشهد، جاءت المداخلات الأساسية لتكشف أنّ النقاش لم يعُد نظرياً، بل بات مرتبطاً بجداول زمنية غير معلنة.

 

سلام: الإنقاذ يبدأ من الدولة

في كلمته، شدّد الرئيس سلام على أنّ أي مقاربة جدّية للملف اللبناني لا يمكن أن تنطلق إلّا من إعادة الإعتبار إلى الدولة ومؤسساتها، باعتبارها الإطار الوحيد القادر على استيعاب التنوّع وضبط التناقضات.

سلام تحدّث بلغة هادئة، لكنّ رسائله بدت مباشرة: لا إصلاح مالياً من دون إصلاح سياسي، ولا استقرار أمني من دون سيادة كاملة، ولا ثقة دولية من دون قرارات داخلية واضحة.

الرسالة الضمنية في كلامه كانت أنّ لبنان لم يعُد يملك ترف الوقت، وأنّ نافذة الدعم الدولي مشروطة، لا مفتوحة على بياض. فالدول المانحة، بحسب مقاربته، باتت تربط أي مساعدة بقدرة السلطة على بسط سلطتها، ومكافحة الفساد، وتوحيد القرار. وفي خلفية هذا الكلام، يلوح تحذير غير مباشر من أنّ التردُّد سيُترجم عزلةً إضافية.

 

توم برّاك: الاستقرار مقابل الإصلاح

أمّا برّاك، فذهب في مقاربته إلى الربط الصريح بين الإستقرار الإقليمي والإصلاحات البنيوية في الدول الهشّة.

برّاك، المعروف بعلاقاته الواسعة في العواصم المؤثرة، تحدّث بلغة الاقتصاد بقدر ما تحدّث بلغة السياسة. ركّز على أنّ المنطقة أمام فرصة لإعادة التموضع بعد سنوات من الاستنزاف، لكنّ هذه الفرصة لن تُمنح مجاناً. في ما يتصل بلبنان، بدا كلامه أقرب إلى المعادلة الصريحة: لا استثمارات بلا استقرار، ولا استقرار بلا إصلاحات، ولا إصلاحات بلا قرار سياسي موحّد. الرسالة الضمنية هنا، أنّ الرهان على الخارج من دون ترتيب الداخل لم يعُد مجدياً، وأنّ المزاج الدولي يَميل إلى دعم الدول التي تُظهر جدّية في التغيير.

 

قطر بين الوساطة وضمان الاستمرارية

وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، قدّم مقاربة حاولت الجمع بين الواقعية السياسية والدور التوافقي الذي تلعبه الدوحة. أكّد أنّ قطر لا تسعى إلى حلول ظرفية، بل إلى مسارات طويلة الأمدر تضمن عدم الانزلاق مجدّداً إلى الفوضى.

في الملف اللبناني، تحدّث عن ضرورة حماية مؤسسات الدولة بوصفها «صمّام أمان» لأي تسوية مقبلة، فيما في الشأن السوري شدّد على أنّ الانفتاح يجب أن يكون مقروناً بإجراءات ملموسة تُعيد الثقة تدريجياً. القراءة الضمنية لموقفه، أنّ قطر تتحرّك على خطَّين متوازيَين: الحفاظ على قنوات التواصل مع مختلف الأطراف، وفي الوقت عينه دفع الثمن السياسي والمالي لإنجاح أي تسوية محتملة، شرط أن تكون قابلة للاستمرار لا مجرّد هدنة موقتة.

 

الشيباني: سوريا تعود إلى الديبلوماسية من باب الإنفتاح

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني حاول أن يرسم صورة لسوريا مختلفة عن تلك التي سادت في السنوات الماضية. تحدّث عن أولوية الانفتاح، وعن رغبة في إعادة تموضع سوريا في محيطها العربي والدولي على قاعدة المصالح المتبادلة. كلامه تضمّن إشارات واضحة إلى أنّ دمشق باتت ترى في الاقتصاد باب العودة إلى السياسة، وأنّ إعادة الإعمار ليست مجرّد شعار، بل مسار تفاوضي معقّد. لكنّ الرسائل الضمنية في مداخلته بدت مرتبطة بميزان القوى الإقليمي: سوريا تريد شراكات، لكنّها لا تزال تتحرّك ضمن سقوف سياسية وأمنية معروفة. وفي هذا الإطار، يقرأ المراقبون أنّ أي انفتاح حقيقي سيبقى مرهوناً بتفاهمات أوسع من مجرّد مبادرات ثنائية.

 

الانعكاسات على لبنان والملف السوري والتوازنات الإقليمية

ما صدر في اليوم الثاني من المنتدى عكس أنّ لبنان وسوريا لم يعودا ملفَّين منفصلَين في الحسابات الإقليمية. فلبنان يُنظر إليه كـ»خط تماس» بين مشروع الدولة ومشاريع النفوذ، فيما تُقرأ سوريا كبوابة إعادة رسم التوازنات بين الشرق والغرب. الرسائل الصادرة من الدوحة توحي بأنّ المرحلة المقبلة لن تُشبه ما سبقها: لا حروب مفتوحة على المدى المنظور، لكن لا تسويات شاملة أيضاً.

إقليمياً، بدا واضحاً أنّ المزاج العام يميل إلى إدارة النزاعات لا إلى تفجيرها، وإلى الضبط لا إلى الانفجار. غير أنّ هذا الضبط مشروط بسلسلة تنازلات متبادلة لم تنضج بعد.

وفي هذا السياق، يظهر لبنان مرّة جديدة كساحة اختبار لمدى قدرة الإقليم على الانتقال من منطق الصراعات إلى منطق التسويات.

 

صورة اليوم الثاني: بين الأمل المحسوب والحذر المستدام

خلاصة اليوم الثاني من منتدى الدوحة، أنّ الإقليم يقف في منطقة وسطى: لا هو في لحظة انهيار شامل، ولا في مرحلة استقرار ناضج. الرسائل التي حملها المتحدّثون الكبار كانت متقاطعة عند فكرة واحدة: المستقبل لن يُصنع تلقائياً، بل عبر قرارات صعبة داخلياً، وتفاهمات معقّدة خارجياً. بالنسبة إلى لبنان، فإنّ ما سُمِع في الدوحة يشي بأنّ الباب لم يُغلق بعد، لكنّه لن يبقى مفتوحاً طويلاً.

أمّا سوريا، فتبدو في طور اختبار جدّي لحدود عودتها إلى المسرح الديبلوماسي.

وبين هذَين المسارَين، تستمر التوازنات الإقليمية في إعادة ترتيب بطيئة، تحكمها معادلة دقيقة بين الردع والتسوية. هكذا، انتهى اليوم الثاني من المنتدى على إيقاع التفاؤل الحذر: مؤشرات انفراج بلا ضمانات، ووعود دعم بلا شيكات مفتوحة، وسياسة تبحث عن استقرار، لكنّها لا تزال تفاوض على شروطه.

theme::common.loader_icon