المشهد الأخير: ولد حلِمَ باللقب... فأصبح هو اللقب
المشهد الأخير: ولد حلِمَ باللقب... فأصبح هو اللقب
لانا نجدي
Monday, 08-Dec-2025 06:36

اللمعان البرتقالي الذي شقّ طريقه من السيارة إلى السائقين الذين حاربوا بأسنانهم، وعلى مضمار «ياس مارينا»، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، لم يكن المشهد مجرّد سباق ختامي... بل نهاية موسم أشبه بمسلسل لا يرحم. أضواءٌ مشرّعة، قلوبٌ معلّقة، وكلّ التاريخ مرتبط بكلمة: البطل.

في ليلةٍ اختلط فيها القلق بالحُلم، صعد البريطاني لاندو نوريس، سائق ماكلارين، ليأخذ مكانه بين العظماء. لم يحتج إلى الصراخ، ولا إلى نظرة تحدٍّ مبالغ فيها. كل ما أراده كان أن يُعيد تعريف البطولة... على طريقته.

 

فيرستابن، الإمبراطور الذي وجد نفسه مطارَداً

الهولندي ماكس فيرستابن، سائق ريد بول، وصل إلى أبوظبي وهو مقتنع بأنّ العرش لا ينتقل بالسهولة التي يتمنّاها خصومه، وأنّ الهيمنة التي عاشها خلال سنواته الذهبية ليست مرحلة... بل قاعدة. بطل اعتاد أن يجعل القلوب ترتجف اسمه يمرّ في الأفق، وأن يُخضع سقف الطموحات إلى حدود قدرته هو فقط.

ولذلك، تعامل مع السباق الأخير كمعركة شخصية، لا كجولة ختامية. انطلق بكل ما لديه من وحشية مُنظّمة، بخبرة تجرّعت الانتصارات أكثر ممّا تذوّق الفشل، وبصرخة دفينة تقول: «اللقب لي... وسيبقى لي».

سيطر على اللفة وراء اللفة، تقدَّم بلا تردُّد، وفاز بالسباق كما لو أنّه يستعيد نظام الكون لوضعه الطبيعي. لكن في لحظة التتويج الخالية من البطولة، اكتشف فيرستابن أكثر الحقائق قسوة: الفوز أحياناً لا يعني أنّك المنتصر.

فالبطولة لم تكن عن الأسرع في يومٍ واحد، بل عن مَن عرف كيف يقاتل بصبر موسماً كاملاً. كان الأمر أشبه بما يحدث في لعبةٍ تغيّرت قواعدها فجأةً... حين يكتشف الإمبراطور أنّ الجماهير لم تعُد تهتف باسمه وحده، وأنّ الضوء الذي كان حكراً عليه سنوات طويلة... انتقل إلى بطل جديد يستحقه. وهنا فقط، أدرك ماكس أنّه، على رغم من الفوز، خسر ما هو أغلى من المركز الأول: لقب العالم.

 

الخصم الذي يأتي من الداخل

الأسترالي أوسكار بياستري، سائق ماكلارين، لم يُخلق ليكون تابعاً لأسطورة جديدة تتشكّل. منذ لحظة وصوله، كان واضحاً بأنّه ليس مجرّد رقم ثانٍ في مشروع ماكلارين الكبير. يعرف نقاط قوّة نوريس لأنّه شاركه الصعود خطوة بخطوة، ويعرف نقاط ضعفه لأنّهما حملا الطموح عينه في اللحظات الحرجة عينها.

وفي تلك المعركة الأخيرة في أبوظبي، كان يقاتل بعقلية رجل يُدرك أنّ التاريخ لا يحتفظ إلّا بالأسماء التي ترفض دور «المساند» مهما كانت المحبّة داخل جدران الفريق الواحد. لم يكن خصماً من الخارج يمكن للبابايا أن تتعامل معه بصف موحّد؛ بل كان خطراً نابعاً من داخل البيت عينه، منافساً شرساً يضع الفريق أمام معادلة صعبة: كيف تُدير حرباً داخلية من دون أن تخسر وحدتك؟

ومع ذلك، كانت عظمة المشهد في أنّ بياستري لم يتجاوز خط الإحترام ولا خط الولاء؛ بل أثبت أنّ أقسى المنافسات يمكن أن تكون أنقى حين تدور بين شخصَين يُريد كل منهما أن يُصبح الأفضل... من دون أن يخون أحدهما الآخر. إنّه السائق الذي لم ينَل البطولة هذا الموسم، لكنّه أعلن رسمياً أنّه لن يسمح بأن تكون أبوظبي... خاتمة لحلمه.

 

نوريس، رحلة الهدوء الذي يصنع الضجيج

كان لاندو نوريس دائماً يُقدَّم كحكاية لطيفة داخل أكثر رياضة قسوة في العالم. الإبتسامة التي تُخفي العاصفة، والولد الذي يبدو وكأنّه وُجد ليُضحك الجمهور أكثر ممّا وُجِد ليُخيف المنافسين.

لكن خلف تلك الملامح الهادئة كان مشروع بطلٍ يتخمّر على نارٍ هادئة. كل جولة كان يخسرها في اللحظة الأخيرة لم تكن سقوطاً... بل تدريباً على الطريقة الصحيحة للعودة. كل مرّة بكى فيها بعيداً من الكاميرات كانت فصلاً جديداً في رواية نضوجه. كم مرّة صعد إلى القمة ثم دُفع عنها بقسوة؟ كم مرّة همس له القدر: «قريباً... لكن ليس الآن؟». إلى أن جاء يوم «الآن».

في أبوظبي، وقف على الحافة عينها التي عرف مرارتها مراراً، لكنّه هذه المرّة رفض السقوط. الهدوء نفسه... لكنّه هدير داخلي لا يُسمع. لم يحتج إلى افتعال الضجيج ليُسمَع صَوته، فقد باتت أصوات الجماهير تصرخ بالنيابة عنه: البطل الجديد وصل. نوريس لم يعُد ذلك الشاب الذي يلوّح للمستقبل من بعيد... أصبح هو الحاضر الذي يفرض نفسه، والبابايا التي كانت مجرّد لونٍ جميل صارت اليوم لون المجد.

 

العالم أصبح برتقالياً... والبطل اسمه لاندو نوريس

مع سقوط الستار على جائزة أبوظبي الكبرى، لم يكن 2025 موسماً ينتهي. بل حقبة جديدة تبدأ. بطولة تغيّرت فيها المعادلات: ماكس لم يعُد وحده في الأعلى، وبياستري أعلن أنّ العدو أحياناً يولد في المرآة؛ وماكلارين، الفريق الذي بكى مجده سابقاً، استردّ لونه الحقيقي، لون البابايا الذي صار رمزاً لليقين بعد الشك.

نوريس، وهو يمسك الكأس، لم يرفع بطولةً فقط... بل رفعنا جميعاً إلى لحظة ندرك فيها أنّ الحُلم مهما طال، لا يسقط بالتقادم. رفع أخطاءه التي صقلته، ورفع صبره الذي صار أقوى من سرعته، ورفع ذاك الطفل الذي ركض خلف البطل على الشاشة ليصبح البطل نفسه.

theme::common.loader_icon