يعود النقاش حول حياد لبنان إلى الجذور العميقة للهوية الوطنية، إذ إنّ الحياد ليس شعاراً ظرفياً ولا طرحاً مستجداً، بل هو امتدادٌ لتاريخ طويل من السعي إلى حماية رسالة لبنان ودوره في محيطه ومنع تحويل الوطن إلى ساحة ثم ساحات. لا يعني الحياد الإيجابي التفريط بالحقوق العربية والفلسطينية، بل يشكّل امتداداً طبيعياً لروح ميثاق 1943 والتزامات لبنان الدولية، ويستمدّ شرعيّته من تراكم التجربة التاريخية والثقافية أكثر ممّا يستمدّها من النصوص الدستورية والقانونية وحدها.
إنّ مقاربة الحياد من خارج هذا الإطار التاريخي والاختباري والثقافي والإنساني تفقِد معناها، لأنّ الحياد في جوهره هو استعادة الوطن من زمن الانجرافات لاستقواء الداخل بالخارج والصراعات الخارجية.
موضوع الحياد بحثه اللقاء التشاوري الذي دعا إليه الوزير والنائب السابق ميشال فرعون والدكتور أنطوان مسرّه، في سياق تحضيري لإصدار الجزء الثاني من كتاب «حياد لبنان الرسمي في إطار جامعة الدول العربية» تحت عنوان: «حياد لبنان واللبنانيِّين: إقفال لبنان الساحة... والساحات». وجمع اللقاء نخبة من الشخصيات السياسية والدبلوماسية والجامعية والفكرية، بينهم الرئيس ميشال سليمان، رئيسَا الحكومة السابقان تمام سلام وفؤاد السنيورة ممثلاً بالوزير والقاضي الدكتور خالد قباني، والوزير السابق ابراهيم شمس الدين، وذلك بهدف تعميق منهجية البحث والانتقال من التوثيق التاريخي الذي تضمّنه الجزء الأول إلى بلورة مقاربات تطبيقية وثقافية تترجم الحياد بوصفه خياراً لبنانياً تأسيسياً ودائماً.
تُظهر التجربة اللبنانية أنّ كل ابتعاد عن الحياد يترافق مع كوارث داخلية وانهيارات متلاحقة. شكّل لبنان ساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية والدولية، ما أدّى إلى اختراق بنيته الوطنية وتحويله صندوق بريد لتبادل رسائل دموية أحياناً لمصالح الآخرين. والعودة إلى سياسة الحياد ليست خروجاً عن دوره العربي، بل هي التزام بموقعه الطبيعي داخل جامعة الدول العربية، كما أسّس لذلك وزير الخارجية هنري فرعون بإصراره على قاعدة الإجماع في الجامعة العربية عند تأسيسها، منعاً لجرّ لبنان إلى محاور وصراعات (ميشال فرعون).
من هنا تأتي الحاجة إلى إعادة تنظيم خطاب الحياد ضمن رؤية تطبيقية وممارسة حديثة. فالحياد ليس مشكلة دستورية بل ثقافية، يتطلّب تنشئة وتربية سياسية جديدة، تعالج «عقدة الباب العالي» المتأصّلة في الوعي الجماعي اللبناني، وتبنّي ثقافة الدولة لا ثقافة المحاور والمخادعة والتمَوضع والتذاكي والتكاذب. المطلوب ليس ندوات نظرية، بل ورشة عمل وطنية بين الدبلوماسية والثقافة والذاكرة والتعليم، تُعدّ للمرحلة 2026-2030 وتستند إلى تراث لبناني غني وتجارب ثقافية مقارنة، ولاسيّما التجربة النمسوية التي حافظت على حيادها ومناعتها من خلال وضوح القيم لا الانكفاء السياسي (أنطوان مسرّه).
لبنان ليس بحاجة لإعلان حياد جديد
أكّدت النمسا نفسها، عبر سفيرتها، هذا التمايز بين الحياد الأخلاقي والحياد السياسي: فنحن محايدون في النزاعات الدولية، لكنّنا غير محايدين في القِيَم. يصلح هذا الدرس للبنان الذي يحتاج إلى حياد يحمي سيادته ولا يفرّط برسالته (سفيرة النمسا فرانشيسكا هوسوفيتز فرنسينغ Franziska Honsowitz- Friessnigg).
اكتسب الحياد اللبناني بُعداً إضافياً مع «إعلان بعبدا» الذي شكّل التزاماً وطنياً جامعاً سُجِّل لدى الأمم المتحدة، فصار مرجعاً ذا قيمة دولية. ويشدّد الرئيس ميشال سليمان على أنّ اطمئنان اللبنانيِّين إلى هوية وطنهم يُخفِّف من التوتر حول الأوزان الطائفية، ويُعيد الاعتبار إلى دور الدولة ورسالتها العربية، كما يعزّز قدرة لبنان على تحرير أرضه وترسيم حدوده ضمن سياسة خارجية محايدة فاعلة (الرئيس العماد ميشال سليمان).
أمّا التجربة التاريخية، فتكشف أنّ سياسة الحياد خدمت لبنان في مراحل تأسيسه الأولى، قبل أن يؤدّي استقواء قوى لبنانية بالخارج وبالانقسامات الإقليمية إلى اختراقات عميقة في بنيته، فانهار الاستقرار وتحوّل البلد إلى ساحة مفتوحة. ومع ذلك، فلبنان ليس بحاجة إلى إعلان حياد جديد، لأنّ تاريخية البُنيان الدستوري والميثاقي يتضمّن مرتكزات التحييد. المطلوب ببساطة ممارسة صحيحة وخالية من الإعوجاج لهذه المبادئ الدستورية لاستعادة الإزدهار (خالد قباني، ممثلاً الرئيس فؤاد السنيورة).
الحياد، في عمقه، شأن الدولة وحدها، لا شأن الأفراد والجماعات. فمَن يعارض حق الدولة في اعتماد سياسة التحييد يضع نفسه خارج الشرعية. الدولة، بوصفها الوعاء الجامع، لا يمكن أن تُختزَل بجماعة أو فئة، ومنطق الحياد يقوم على مصلحة وطنية عليا تتجاوز مصالح المكوّنات. بل إنّ النصوص الدينية نفسها تُقدّم شواهد على قبول الحياد كنهجٍ لحماية المجتمع والدولة. تتقاطع هذه المقاربة مع ما أكّده الإمام محمد مهدي شمس الدين قبل وفاته بشهر، حين اعتبر أنّ طبيعة الاجتماع اللبناني تفرض استقلال الكيان وتمنع أي صيغة وحدوية، حتى ضمن فضاء عربي واسع. ويقول الإمام شمس الدين: «قلتُ وأكرِّر أنّ لبنان خارج أي صيغة من الوحدة إلى أبد الآبدين، ولو تكوّنت جمهورية عربية من طنجة إلى عدن، لبنان الدولة العربية الثانية، سيبقى دولة عربية أخرى» (إبراهيم شمس الدين).
نصيحة العالم للبنانيِّين: حيّدوا
أنفسكم لتسلموا
يبرز في هذا السياق البُعد الدولي للحياد. تُظهِر الممارسة التاريخية أنّ القوى الكبرى نفسها اشترطت حياد لبنان لضمان الاستقرار الإقليمي. لم يكن الرئيس جمال عبد الناصر وحده يشترط حياد لبنان عام 1958، بل إنّ الولايات المتحدة نفسها، عبر وزير خارجيّتها هنري كيسنجر في 1973، اعتبرت أنّ المطلوب من لبنان هو منع انطلاق عمليات عسكرية من أراضيه كَيْ لا تتعطّل مسارات التسوية. وقد كشفت محاضر الخارجية الأميركية، أنّ لبنان كان آنذاك محاصراً بين ضغوط فلسطينية-سورية من جهة وإسرائيلية من جهة أخرى. إنّ غياب الحياد كان دوماً سبباً مباشراً لأزمات لبنان، وقد أفضى إلى تعطيل السيادة وتحويل البلاد إلى محطة صراع عربي-إسرائيلي. والمقارنة مع النمسا مفيدة، لكنّ خصوصية لبنان تكمن في أنّ مشكلته ليست دستورية بل ثقافية: فالمجتمع اللبناني مسيّس أكثر ممّا هو مؤطَّر بقِيَم دولة، بينما لم يدخل السويسريّون الأمم المتحدة إلّا بعد تثبيت مفاهيم واضحة تمنع أي خرق لحيادهم. اللبناني في المقابل مصاب بعقدة «الباب العالي» لا يمتلك استراتيجية حياد، بل تموضعاً ظرفياً (طوني عطاالله).
يلفت عدد من المتداخلين إلى أنّ الحياد يجب أن يُمارَس لا أن يُعلن فقط. فالمعضلة ثقافية قبل أن تكون سياسية، وتحتاج إلى بناء وعي وطني جديد، لا إلى حوارات متكرّرة غير منتجة (إبراهيم طرابلسي، إيلي دياب، منى طعمة فيصل، فادي أبو داغر، كريستين خاتشيك بابكيان).
يستخلص داوود الصايغ أنّ القرارات الدولية لا تأتي على ذكر الحياد مباشرة، لكنّ لبنان يعيش حالة حرب وضغوطاً متشابكة، بينما تسير المنطقة نحو تطبيع واسع واتفاقات إبراهيمية. وهذا يزيد الحاجة إلى صياغة موقف لبناني واضح يحمي الدولة من الانجرار إلى دعوات متهوّرة (داوود الصايغ).
تبقى الخلاصة جامعة: إنّ الحياد اللبناني الرسمي وحياد اللبنانيِّين معاً، يمثلان شرطاً لاستعادة الدولة ووضع حدّ لعقود من الاستتباع والانهيار. المطلوب رؤية نقدية جديدة تخرج من ثقافة «لبنان راجع راجع يتدمّر» إلى ثقافة تصحيح الإعوجاج واستعادة الدولة، فالحياد ليس انسحاباً بل مشروع سيادة وثقافة دولة وتربية. وهو السياج الذي يحمي الحديقة الوطنية، كما يقول القدّيس نيكولا دو فلويه (Nicolas de Flüe)، ويُعيد إلى لبنان دوره الطبيعي كبلد العقل كما يصفه كمال جنبلاط، لا بلد الصراعات (أنطوان مسرّه).