في الدول التي تحترم مؤسساتها، يُفترض أن يكون القضاء المرجع الأخير لحسم النزاعات وإحقاق الحقوق. لكن في لبنان، حيث تتشابك السياسة بالقضاء كما تتشابك المصالح بالطوائف، تتحول الدعاوى القضائية أحياناً إلى منصّات اتهامية تُستخدم لتصفية الخصوم، لا لإحقاق العدالة.
تحقيقات انفجار مرفأ بيروت (2020)، انقسمت القوى حول القاضي المحقق والجهات المدّعى عليها
في الأنظمة الديمقراطية، يُرفع النزاع أمام المحكمة، وتُعرض الأدلة في العلن، ثم يُصدر القاضي حكماً يستند إلى القانون. أمّا في لبنان، فإنّ تداخل السلطة السياسية مع السلطة القضائية يجعل من الدعوى أداة ذات وجهين: وجه قانوني ظاهر، ووجه سياسي مستتر. وغالباً ما تطغى السياسة على القانون.
تبدأ اللعبة بالتسريبات الانتقائية، إذ تُنشر مضامين التحقيقات أو إفادات الشهود في الإعلام، فيتشكّل انطباع شعبي بأنّ المتهم مدان قبل المحاكمة. ثمّ تتدخّل المنصّات الإعلامية التابعة للأطراف المتنازعة لتوجيه الرأي العام، فيُقدَّم طرف على أنّه «رمز للفساد»، فيما يُقدَّم الآخر على أنّه «حامل لواء العدالة والإصلاح». وهكذا تُختزل العدالة في سردية إعلامية تخدم الحسابات الآنية.
ولا يقتصر الأمر على الإعلام، إذ تُؤطَّر بعض القضايا بخلفية طائفية أو حزبية، لتُقدَّم كأنّها استهداف لجماعة بأكملها لا لفرد. وهنا تتحول الدعوى من نزاع قانوني إلى نزاع جماعي، يلهب الشارع، ويُضعف ثقة الناس بالمؤسسات. ويستعمل كل طرف التوقيت السياسي الذي يخدمه، فتُفتح الملفات أو تُضخَّم في لحظات حساسة: تشكيل حكومة، انتخابات، أو أزمات داخلية، لتُستعمل كوسيلة ضغط أو مساومة.
نتيجة ذلك، انّ العدالة تُصاب بالشلل. فالقاضي يُحاصَر بين اتهامات الانحياز وضغوط القوى النافذة، والمتهم يُدان إعلامياً قبل أن يُبرّأ قانونياً، والمواطن يفقد ثقته بمبدأ قرينة البراءة. هكذا، يصبح القضاء ساحة نزاع لا مؤسسة تحكيم.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنّ بعض الأطراف تلجأ إلى المواجهة الإعلامية دفاعاً عن نفسها، خشية أن تكون العدالة المسيّسة أداة انتقام، لا إنصافاً. في هذا السياق، يتحول النزاع إلى حلقة مفرغة: كل طرف يتهم الآخر بتسييس القضاء، فيما تتآكل الثقة بالدولة نفسها.
إنّ الخروج من هذه الدوامة يستدعي إعادة الاعتبار لاستقلال القضاء، وتجريم تسريب التحقيقات، وضبط الخطاب الإعلامي والسياسي الذي يسبق الأحكام القضائية. فالقضاء يجب أن يبقى فوق النزاع، لا طرفاً فيه.
إنّ تحويل الدعاوى إلى منصّات اتهام قبل صدور الأحكام هو انقلاب على فكرة العدالة ذاتها، لأنّ العدالة لا تقوم على الضجيج، بل على الدليل والحكم الصادر باسم الشعب. وعندما تُستبدل الكلمة القضائية بالشائعة السياسية، يصبح الوطن كلّه في قفص الاتهام.
خلفية لبنانية: العدالة رهينة السياسة
شهد لبنان خلال السنوات الأخيرة سلسلة من القضايا التي جسّدت هذا التداخل بين القضاء والسياسة.
تحقيقات انفجار مرفأ بيروت (2020) تحوّلت إلى محور سجال سياسي وطائفي، حيث انقسمت القوى حول القاضي المحقق والجهات المدّعى عليها، بين من رآها معركة من أجل العدالة ومن اعتبرها استهدافاً سياسياً.
ملف المصارف والودائع اتخذ بدوره طابعاً سياسياً، فكل إجراء قضائي ضدّ مصرف أو مسؤول مالي يُفسَّر بحسب موقعه من الخريطة السياسية، لا وفق المعايير القانونية.
كذلك، النزاعات القضائية داخل الجسم القضائي نفسه، وملفات المحققين والادعاءات المتبادلة، أظهرت أنّ النزاع السياسي بات يخترق مؤسسة العدالة، ويقوّض وحدتها واستقلالها.
هذه النماذج تُظهر أنّ العدالة في لبنان، بدل أن تكون مظلة جامعة، أصبحت مرآة لانقسام المجتمع والسياسة. وما لم يُعَد بناء الثقة بالقضاء كمؤسسة محايدة، فإنّ كل دعوى جديدة ستُقرأ في ضوء الخصومات القديمة، لا في ضوء الحق والقانون.