مصر ولبنان.. خيط نور لا ينطفئ
مصر ولبنان.. خيط نور لا ينطفئ
إبراهيم حلاوي

محامي ووزير سابق

Friday, 28-Nov-2025 07:20

على امتداد الساحل الشرقي للمتوسط، حيث تلتقي زرقة البحر بأنين المدن العريقة، يظلّ الخيط الذي يربط مصر ولبنان أشبه بخيط نورٍ لا ينطفئ. تاريخٌ طويل من الألفة، من الموسيقى والكتاب والشعر، ومن الأزمات التي تُختبر فيها المعادن الحقيقية للشعوب.

وحين ضربت الأزمات قلب لبنان، من انفجار مرفأ بيروت إلى الانهيارات المعيشية المتلاحقة، لم تتردّد مصر لحظة في أن تمدّ يدها، كالأخت الكبرى التي تعرف معنى العثرة وتُجيد لغة المواساة قبل لغة الحساب، ولهذا السبب لم أستغرب تصريحات وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي في بيروت حين قال: «إنّ لبنان بلد عزيز على مصر، وإنّ مصر لن تتردّد في دعمه سياسياً وأمنياً وإنسانياً، وإنّ ما يهمّنا هو استقرار هذا البلد وشعبه وعودة الهدوء إلى كل أراضيه».

 

وأذكر عندما كنت وزيراً للاقتصاد والسياحة في ثمانينات القرن الماضي، كانت مصر تبادل لبنان العرفان بالعرفان والجميل بالجميل، لم ترفض له طلباً واحداً، وكانت معه في كل المواقف، وكلنا يتذكّر الأيام الأولى لانفجار المرفأ، كيف أرسلت مصر طائرات الإغاثة لتحطّ في مطار بيروت، كأنّها رسائل سلام مكتوبة على أجنحة بيضاء، حاملة معها ما استطاعت من ضمادات ودواء وأجهزة إسعاف، ولكن قبل كل شيء شعوراً صادقاً بأنّ لبنان لن يُترك وحيداً في شدّته. لم تكن مبادرة مصر مجرد شحنات، بل كانت اعترافاً بأنّ جرح بيروت هو جرح عربي، وأنّ القاهرة حين تتحّرك فإنّها تفعل ذلك بثقل تاريخها ورحابة قلبها.

 

ومع توالي الأزمات، لم ينقطع الجسر الجوي ولا نبض التضامن. الهلال الأحمر المصري، بجهوده الهادئة، جهّز عشرات الأطنان من المواد الغذائية، وأرسلها إلى من أنهكتهم الحاجة. كانت القوافل تصل واحدة تلو الأخرى، تشبه في حضورها المتكرّر موج البحر. قد يغيّبها الأفق لحظة، لكنها تعود دائماً محمّلة بما يعيد الحياة إلى شاطئٍ عطِش. وفي كل مرّة كان اللبنانيون يرون العلم المصري على صناديق المساعدات، كانوا يرون فيه شيئاً من الطمأنينة. وعلى جبهة الطاقة، حين اشتدّ ظلام الليل اللبناني، كانت مصر من أوائل الدول التي دفعت في اتجاه اتفاقيات الغاز الإقليمي لمساندة لبنان في رفع ساعات التغذية بالكهرباء. قد يبدو الغاز مادة جامدة، لكنه بالنسبة للبنان كان نافذة صغيرة تُفتح في جدار العتمة، ومصر أرادت لهذه النافذة أن تبقى مضاءة، ولو بشعاعٍ ضئيل، ريثما تستقيم الظروف. كان ذلك موقفاً سياسياً واقتصادياً في آن، ولكنه كان قبل كل شيء موقفاً إنسانياً: أن تدرك ما يعنيه أن تنطفئ مدينة أحبّت الضوء دائماً.

 

ولم يكن الدعم المصري محصوراً في الطوارئ. فمن التعليم إلى التدريب الطبي، فتحت المؤسسات المصرية أبوابها للطلاب والأطباء اللبنانيين، إيماناً منها بأنّ بناء الإنسان أبقى من أي شحنة مساعدات. لقد منحت القاهرة مئات الطلاب فرصة متابعة دراستهم، ومنحت كوادر لبنانية فرص تدريب وتطوير، كي يظل النبض المهني حيّاً في بلد طالما أنجب أطبّاء ومهندسين ومبدعين. وكأنّ مصر تقول: «الأزمة عابرة، لكن المعرفة لا تعبر دون أن تترك أثراً».

 

الديبلوماسية أيضاً كان لها دورها الهادئ؛ فالسفارة المصرية في بيروت كانت، ولا تزال، منزلًا مفتوحاً لكثير من المبادرات والتنسيق. كلمات السفراء المصريين جاءت دائماً مُطمئنة، تحمل نبرة من يعرف لبنان جيداً ويحبه بصدق. كانوا يكرّرون أنّ استقرار لبنان ليس خياراً ثانوياً بالنسبة إلى القاهرة، بل جزء من رؤية عربية ترى في لبنان منارة ثقافة وعيش مشترك لا يجب أن تُطفأ.

 

وفي لحظات التصعيد الإقليمي، حين علا صوت القلق فوق صوت الحياة، سارعت مصر إلى إرسال مزيد من المساعدات الطبية العاجلة، دعماً للمستشفيات التي ازدادت عليها الحالات وضاق بها المكان. تلك الخطوات السريعة لم تكن مجرد تنفيذ لقرارات، بل كانت تعبيراً عن إدراك حقيقي لما يعنيه أن يخوض بلد صغير معارك أكبر من قدرته. وفي مثل تلك اللحظات، يصبح الدعم الإنساني أكثر ضرورة من أي خطاب سياسي.

 

حين نجمع كل هذه التفاصيل، من القوافل إلى الغاز، ومن التعليم إلى الرسائل الديبلوماسية، نكتشف أنّ مصر لم تتعامل مع لبنان بصفته «دولة شقيقة» فحسب، بل بصفته جزءاً من الذاكرة العربية المشتركة، وجزءاً من موج البحر الذي يلامس الإسكندرية وصور في آنٍ واحد. لم ترفع مصر سقف الوعود، لكنها رفعت سقف التضامن؛ لم تعِد بما لا تستطيع، لكنها لم تتأخّر في تقديم ما تستطيع.

 

لبنان اليوم يقف بين التعب والأمل، بين ما فقده وما يطمح إليه. ومصر، التي تعرف معنى النهوض من العثرات، تقف إلى جانبه بثباتٍ هادئ، كشجرة قديمة تعرف اتجاه الريح لكنها لا تنحني إلّا لتظل واقفة.

 

وفي النهاية، يظل ما بين مصر ولبنان أكثر من سياسة ومصالح. إنّه وجدان مشترك، لغة وموسيقى ومقاهٍ كتُبت فيها قصائد لا تزال تُتلى. وفي كل مرّة يشتد فيها الليل على جبال لبنان أو على نيله المتدفق، يظل هناك يقين بأنّ الشعوب التي تنبض بالمحبة قادرة دائماً على إيجاد طريق إلى بعضها، ومصر في كل أزمة، كانت واحدة من تلك الطرق المضيئة.

theme::common.loader_icon