استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية
قد نحتاج إلى تحليل معمّق لمفهوم الطائفية وحقيقته، في مسعى - ليس بالسهل - لوعي المعنى، وما يترتّب عليه، سياسياً واجتماعياً، وخصوصاً في موضوع الدولة وبنائها، لكن بخلفية غير طائفية، إذ إنّ الوعي الطائفي لفلسفة الطائفية، لن يعدو أن يكون فعلاً من سنخ المفهوم، وليس متعالياً عليه.
الطائفية عصبية، كأيّ عصبية، لكنّها، هنا، تتمظهر في حدود الطائفة، وتتعلّق بها، كما يمكن أن تتعلّق العصبية بالقبيلة، فتصبح قبلية، أو بالعائلة، فتضحى عائلية، أو بالجغرافيا، فتمسي جغرافية... بيد أنّها، في جوهرها، تتمثل في إعلاء شأن الأنا على الآخر، سواء كانت فردية، أو جمعية: طائفية، أو سوى ذلك...
وحتى نفقه أكثر ماهيّتها، لا بُدّ من الإشارة إلى جملة من سماتها، أو بعض ما يتصل بها:
1- اللاعقلانية: بمعنى أنّ الغلوّ في وعي الذات، يُطيح بوعي الآخر، ما يفضي إلى الفشل في بناء الشراكات البنّاءة، وتلمّس المصالح الواقعية، التي تتأتّى من التعاون مع الآخر، وتنمية الشأن العام من خلاله. ولذلك ترى الطائفي، يرتضي الإضرار بنفسه، أو باجتماعه العام، إشباعاً لغريزته الطائفية، ذلك أنّ الطائفية تورث العمى الطائفي، وتُكبِّل العقل عن معاينة المصالح الواقعية للإنسان واجتماعه الإنساني، وهو يعني أنّه كلما ارتفع منسوب الطائفية، كلما قلّ منسوب العقلانية، والعكس صحيح.
2 - العنصرية: بمعنى أنّ الغلوّ في وعي الذات، عندما يكون على حساب الآخر، سيؤول إلى نوع من العنصرية، بل والعدائية نحوه، أي إنّ الطائفية، في هذا الحال، لن تبقى مجرّد موقف من الذات، بل تضحى، في المقابل، موقفاً من الآخر، وهذا الموقف من الآخر سيجنح إلى العنصرية في الوعي والسياسات وغيرها، ليعبّر عن نفسه بنوع من الانعزال الذاتي تقديساً وعلواً، والعداء الغيري استصغاراً.
3- الفساد: عندما تصبح الطائفة - في الوعي الطائفي - الغاية، تغدو الدولة الوسيلة. وهنا، يُصبح مقبولاً، في القِيَم الناتجة، العملُ على تطويع كل ما يرتبط بالدولة، لخدمة ما يترأى أنّه مصلحة طائفية، بما في ذلك - في حال طغيان الوعي الطائفي - مخالفة القانون، ومفارقة القيم العامة، ما يوفّر أرضية خصبة لمجمل بذور الفساد وبواعثه.
4- الظلم (اللاعدالة): عندما يصل تقديس الذات الطائفيّة إلى ذاك الحدّ، تصبح هذه الذات - في وعيها - أرقى شأناً من نظائرها، ومصلحتها تتقدّم على مصلحة من عَداها، وحقوقها أشدّ أهمية من سواها، وأفرادها - مهما كانوا - مقدّمين على غيرهم، وهو ما يؤسّس لاختلال التوازن في العلاقة بالآخر - أي آخر - ما يعني أن يصبح طغيان المصلحة الطائفية على مصالح الآخرين أمراً مشروعاً، والانتقاص من حقوق الآخرين لمصلحة الطائفة أمراً مبرّراً... ما يعني أنّ الوعي الطائفي يدفع نحو اللاعدالة، بل نحو تدشين أنماط من الظلم في العلاقة بالآخر. أي - وبكلمة موجزة - لا تجتمع الطائفية مع العدالة، فإمّا عدالة تلغي الطائفية، أو طائفية تلغي العدالة.
5- الدولة: الوعي الطائفي يعني وعي ما قبل الدولة، بل يعني نوعاً من التصحّر الثقافي في البيئة الاجتماعية، يعوق بناء الدولة وقيامها، لأنّ هذا الوعي، لن يفضي، إلّا إلى تخصيب نوع من الانشطار المستديم في البنى الاجتماعية، التي تقوم عليها الدولة، وما لم يحصل - في المقابل - مستوى من الانصهار البنّاء في تلك البنى الاجتماعية: هوية، وانتماء، ووجداناً، لن نصل إلى مرحلة الدولة والإعانة على قيامها. وهو ما ينعكس على جملة من الأمور، منها أنّ الطائفية تبني الدولة على المحاصصة والتقاسم الطائفي، وتستبعد الكفاية، فيصبح التسانخ الطائفي مقدّماً على الأهلية والكفاية، وهو ما يوهن الدولة ويضعف دورها. أي إنّ المعادلة، في تهافت الدولة والطائفية، تضحى على مقدار من الوضوح: الطائفية تعني استدامة الانشطار المجتمعي، والدولة تقوم على الانصهار المجتمعي، ما يعني التنافي في الوعي ومخرجاته.
وعليه، تُعدّ الطائفية من أخطر الأسباب التي تعوق بناء الدولة، وتحول دون قيامها؛ بل هي السبب الجوهري الذي يمنع من العبور إلى الدولة في لبنان، وهو ما يستدعي - عند تشخيص السبب - أن يُجعل ذا أولوية في برامج العلاج وسياساته، إن كان من نية صادقة للوصول إلى الدولة الوطنية الأمّ والعادلة، لكن في الخطاب السياسي لعدد من القوى، فإنّ ما يحصل، هو: إمّا تعتيم على هذا السبب، أو التقليل من خطورته. بل إنّ البعض يعمل على تعزيز الطائفية في الوعي والممارسة، وهو يدّعي - في الآن نفسه - الحرص على الدولة، ويرفع لواءها.
للأسف، إنّ ما يحصل في لبنان، في الخطاب والممارسة، هو أبعد ما يكون عن الفعل الذي يستنبت بناء الدولة، إذ إنّ تشوّه الوعي، طائفياً، يجعل المقاربات، التي يقدّمها كثير من القوى السياسية، لبناء الدولة، مقاربات طائفية بامتياز، في الخلفيّة والغاية. ولذلك تراها تشطح إلى إدعاء شروط غير جوهرية، أو غير صحيحة - القضاء على المقاومة، ونزع سلاحها - لبناء الدولة وقيامها، وهذه تأويلية طائفية بامتياز، لأنّ العمى الطائفي، يجعل وعي هؤلاء للدولة وعياً طائفياً، فيبتدع شروطاً وسبلاً طائفية للوصول إليها، وهو ما لن يؤدّي، إلّا إلى مزيد من ارتكاس الدولة، والتصحّر السياسي والاجتماعي المانع من قيامها.
في اختصار، إنّ مَن يُريد - صادقاً - العبور إلى الدولة، عليه أن يعي أنّ المدخل إلى الدولة يجب أن يكون غير طائفي، وأن يضع يده على أخطر الأعطاب التي تحول دونها، وهو الطائفية وسمومها، أمّا مَن يعمل على ابتداع مداخل طائفية للوصول إلى الدولة، فهو يُريد اللادولة، لكن بإسم الدولة، لأنّه، ما لم يتجاوز طائفيّته، لن يكون قادراً على تبصّر الدولة، والإعانة على قيامها، وهو ما يتطلّب علاج الطائفية باللاطائفية، وتتمثل البداية في اعتماد قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، وهو ما نصّ عليه إتفاق الطائف.