في الواقع، الوضع على الجبهة الأوكرانية- الروسية بات يتسم بالكثير من التعقيدات، سواء على مستوى الأطراف المباشرة في النزاع أو على المستوى الدولي الذي يشهد تداخل مصالح وتوجّهات متناقضة. وفي ظل الحديث عن تسوية سرّية تُرتّبها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يرتفع دور تركيا كوسيط جدّي بين الطرفَين المتحاربَين.
تركيا تبدو على استعداد للمشاركة بشكل فاعل في عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا، وهذا يعكس دورها المتنامي في السياسة الدولية كقوّة إقليمية لا غنى عنها في قضايا الأمن والاستقرار في المنطقة.
يعتمد موقف أنقرة، بشكل كبير، على المصالح الاستراتيجية، سواء في الحفاظ على علاقاتها مع روسيا من جهة، أو دعم الموقف الأوكراني من جهة أخرى، في إطار سعيها للحفاظ على توازن دقيق.
تركيا تجمع بين دورها كعضو في الناتو ومصالحها الاقتصادية مع روسيا، خصوصاً في مجالات الطاقة والتجارة. من جهة أخرى، تتطلّع أنقرة إلى أن تكون لاعباً رئيساً في تعزيز دورها في القوقاز وشرق البحر الأبيض المتوسط، وفرض نفسها كوسيط مَوثوق به في هذا الصراع.
مع تصاعد التوترات بين روسيا وأوكرانيا، قد تكون تركيا في موقع فريد يسمح لها بالضغط على كلا الطرفَين. من خلال هذه الوساطة، تأمل تركيا في زيادة نفوذها في المنطقة، وتحقيق مكاسب ديبلوماسية في شكل اتفاقيات أمنية أو اقتصادية مع كلا الجانبَين.
إن كان بالفعل هناك «بعض المقترحات» التركية التي تشير إليها وسائل الإعلام، فقد تكون هذه المقترحات، في حال طُبِّقت، هي نقطة تحوّل في مسار هذا النزاع.
الدور الأميركي وأثره في التفاوض
الولايات المتحدة تؤكّد على أنّها كانت في صلب الجهود للتوصّل إلى تسوية شاملة للنزاع. وزيارة زيلينسكي إلى أنقرة تأتي في إطار إشارة قوية إلى التنسيق بين أوكرانيا والولايات المتحدة، إذ يبدو أنّ واشنطن قد أظهرت استعدادها لدعم أي جهود تؤدّي إلى إيقاف الصراع.
أشار تقرير «أكسيوس»، بتاريخ 19 تشرين الثاني 2025، حول خطة السلام المكوّنة من 28 بنداً، إلى أنّه يمكن أن يكون مفتاحاً لفهم استراتيجيات الحل المطروحة من قِبل الولايات المتحدة. وعلى رغم من عدم تأكيد التفاصيل بشكل كامل، إلّا أنّ هذه التسوية قد تشمل بنوداً تتعلّق بتأمين حقوق أوكرانيا وأمنها، مع احتمال إيجاد حلول ترضي روسيا بشأن القضايا العسكرية والسياسية الحساسة.
التأثير الداخلي في الولايات المتحدة
ليس من المستغرب أن تكون الولايات المتحدة قد لعبت دوراً محوَرياً في جهود الوساطة، لكنّنا لا نعرف بعد إلى أيّ مدى ستكون تلك الجهود فعّالة في مواجهة الضغوط الداخلية. وعلى رغم من أنّ تقارير حول إقحام ستيف ويتكوف، أحد المبعوثين الرئيسيِّين لترامب، قد أُثيرت، إلّا أنّ التقارير الصحافية لم تكن واضحة في تقديم معلومات دقيقة حول هذه الخطوة.
ومن الممكن أن يكون هذا أيضاً إشارة إلى محاولة ترامب في إعادة تفعيل علاقاته مع موسكو، بما يتماشى مع سياسات «التقارب» التي كانت سائدة في فترته الرئاسية.
تحدّيات التصعيد الداخلي الأوكراني
زيارة زيلينسكي إلى تركيا تحمل معها أبعاداً داخلية مثيرة للإهتمام، إذ يسعى الرئيس الأوكراني إلى التعامل مع التوترات السياسية الداخلية التي أثارها التحقيق في الفساد في قطاع الطاقة. وهذا قد يؤثر على صورته في الداخل، خصوصًا بعد أن رُبِطت بعض الشخصيات السياسية مثل أندريه يرماك ورستم عمروف بهذه التحقيقات.
ومن المحتمل أنّ زيارة زيلينسكي إلى تركيا تهدف إلى إرسال إشارات مزدوجة: الأولى، بأنّها محاولة لإبقاء الدعم الدولي قوياً في ما يخصّ الأوضاع السياسية الداخلية لأوكرانيا؛ والثانية، بأنّها قد تكون منصة للموافقة على إجراء تغييرات في صفوف الحكومة الأوكرانية التي قد تؤثر في مجريات الصراع.
في ظل الأزمات السياسية التي تعصف بالحكومة الأوكرانية، قد تكون زيارة زيلينسكي إلى أنقرة بمثابة محاولة لإنقاذ موقفه داخلياً في مواجهة أزمات الفساد التي تُهدِّد استقرار حكومته. وتشير تصريحات الصحافة الأوكرانية إلى أنّ زيلينسكي يسعى إلى الفصل بين الصراع السياسي الداخلي وجهود السلام الخارجية، وهو تحدٍّ كبير في ظل الأوضاع الحالية.
موقف روسيا
على الجانب الروسي، يبدو أنّ هناك موقفاً ثابتاً من قِبل موسكو بعدم التسرّع في التوصّل إلى تسوية، ما يعكس استمرار تعنّت روسيا في المفاوضات. وأشار السكرتير الصحافي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف، إلى أنّه لا يوجد تطور جديد في الملف، ممّا يُسلّط الضوء على عدم استعداد موسكو لإبداء أي تنازلات كبيرة.
تصعيد عسكري أم تسوية سلمية؟
في الوقت الذي تستمر فيه روسيا في المضي قدماً في عملياتها العسكرية في أوكرانيا، يظل التساؤل مطروحاً: هل ستستمر موسكو في خيار التصعيد العسكري أم ستختار البحث عن تسوية سلمية، وهو ما يعتمد جزئياً على ما إذا كانت هناك أي ضمانات تُقدّم لها في المفاوضات المقبلة.
ويشير الوضع الحالي إلى مرحلة حاسمة في الصراع الروسي- الأوكراني، مع سعي تركيا إلى لعب دور الوسيط وقيام الولايات المتحدة بدعم هذه الجهود.
لكن، تبقى التحدّيات كثيرة، من بينها المخاوف الداخلية لأوكرانيا وصعوبة التوصّل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف. في النهاية، قد تكون المرحلة المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كان هناك بالفعل إمكانية لتحقيق «سلام عادل» كما يأمل زيلينسكي، أم أنّ صراعاً طويل الأمد سيستمر على خلفية مصالح متضاربة وصعوبات في تحقيق التوافق.