توازن سلسلة ريبيكا ميلر الوثائقية المكوّنة من 5 أجزاء، بين تقديرها للمخرج ونظرتها الواضحة إلى صراعاته. في فيلم مارتن سكورسيزي The Last Temptation of Christ، يرى يسوع في رؤيا أنّه يرفض مصيره الإلهي ويتزوّج مريم المجدلية ليعيش حياة رجل عادي. وعندما ينزل عن الصليب، يبدو مرتاحاً ومكتئباً في الوقت عينه. يسأل بدهشة: «ألست المسيح؟ لا يجب أن أُضحّى بي؟».
إذا كنت قد شاهدت بقية الفيلم (تنبيه: يسوع في النهاية يتخلّى عن امتيازاته الإنسانية ويقبل بصلبه برضا وسعادة) فبإمكانك أن تستشفّ ما تفعله المخرجة ريبيكا ميلر عندما تُدرج هذا المشهد في فيلمها الوثائقي Mr. Scorsese، تقييمها الدقيق لمسيرة هذا السينمائي.
ترى ميلر تشابهاً بين يسوع في «الإغراء» وموضوع فيلمها في الحياة الواقعية. مراراً وتكراراً على مدى 8 عقود، اختار سكورسيزي أن يتخلّى عن راحة الحياة الأسرية ليُضحّي بحياته على مذبح السينما.
قد تكون تلك التضحية جعلت منه شهيداً فنياً، لكنّها تركت أيضاً خلفها سلسلة من «مريم المجدليات»، وجزء من مهمّة ميلر في الفيلم هو الموازنة بين تقديرها له ونظرتها الصافية تجاه مَن تُركوا في الخلف. تزوّج سكورسيزي 5 مرّات وله 3 بنات، اثنتان منهنّ مرّتا بفترات طويلة من دون رؤيته. يُشكّل تطوّر علاقته بالنساء عبر حياته خَيطاً محوَرياً في هذا البروفايل الآسر والكاريزمي، الذي يروي قصة سكورسيزي بمساعدة عائلته ومتعاونيه ومجموعة من لحظات السينما الخالدة.
يرتكز المشروع، المتاح عبر منصة Apple TV+، على الحوارات الودية بين ميلر والمخرج، التي سجّلتها خلال مقابلات عدة. وبينما تميل أفلام السِيَر الذاتية الوثائقية إلى تقطيع مقابلاتها، تحتضن ميلر وجودها خلف الكاميرا وتعرض المقابلة كتبادل حقيقي. يظهر سكورسيزي مرتدياً قمصاناً رسمية، ويعرض صفاً من الأسنان البيضاء المبهرة، ويستقبل ميلر بحرارة وحس فكاهي وانفتاح واضح على رواية القصة كاملة، حتى عندما لا تكون الصورة مثالية.
يبدأ البروفايل من الطفولة، حين كان سكورسيزي طفلاً مريضاً يقضي وقته في الداخل. يتذكّر طفولته الهادئة في حَي إيطالي أميركي في «كورونا» بكوينز، ثم مراهقته الأصعب في «مانهاتن السفلى».
كان العنف في كل مكان: من زعماء المافيا الذين حكموا المدينة، إلى شجار والده مع مالك العقار الذي انتهى بالضرب. تسلّط ميلر الضوء على معاناة سكورسيزي مع الربو كنقطة انطلاق لمسيرته السينمائية؛ إذ تعلّم وهو معزول داخل شقته، يراقب الشارع من النافذة، كيف يرى العالم لقطة بلقطة.
في مراهقته، وجد سكورسيزي ملاذه في الكاثوليكية، وسلك خطوات نحو الكهنوت. لكنّه لاحقاً التحق بجامعة نيويورك، فنال جوائز عن أفلامه القصيرة: أعمال مرحة وحُبيبية الملمس تنقل روح المَوجة الفرنسية الجديدة.
إلّا أنّ صراعه مع إيمانه المسيحي استمر طوال حياته. ومع تقدّمه في مسيرته، ملأ سكورسيزي أفلامه بأفكار دينية، بشكل واضح في «آخر إغراء» وSilence، وهما عملان عن الصراع الداخلي. لكنّ أفلامه الدُنيَوية أيضاً تخوض في لاهوتٍ خاص بها، تتصارع مع مفاهيم الفضيلة والخطيئة، الدمار والخلاص، الذنب والنعمة.
كما واجه سكورسيزي «الشيطان» (مجازاً) في حياته الشخصية، خصوصاً بعد فيلمه The Last Waltz، الوثائقي عن فرقة «ذا باند». بعد طلاقه وإدمانه للمنشّطات، انتقل للعيش في لوس أنجلوس مع كاتب الأغاني الرئيسي وعازف الغيتار في الفرقة، روبي روبرتسون، حيث نشأت بينهما شراكة إبداعية مدفوعة بالكوكايين والاحتفالات الصاخبة.
انتهت تلك المرحلة بانهيارٍ بسبب المخدّرات ودخوله المستشفى. تقدّم ميلر هذه الفترة المظلمة كفصل دراميّ ينتهي على حافة الهاوية. كان هذا التناول قد يبدو مبالغاً فيه لولا أنّه تُوّج بقوس خلاص مؤثر: روبرت دي نيرو، صديقه القديم، مدّ له يد العون وأقنعه بصنع فيلم Raging Bull. وكان نجاحاً ساحقاً.
هذا الانهيار الدرامي ثم العودة المظفرة أصبحا نمطاً متكرّراً في حياة سكورسيزي، وتكرّر في أوائل الثمانينات عندما تسبّب فشل The King of Comedy التجاري بإبعاده عن هوليوود. عاد إلى الأفلام المستقلة مع After Hours الذي مثّل عودة قوية وانتصاراً كبيراً. بعد بضع سنوات، مهّد الجدل وخيبة الأمل التي رافقت «الإغراء» الطريق لنجاح آخر: Goodfellas.
يتسارع إيقاع «السيد سكورسيزي» في التسعينات، خصوصاً بعد عام 2000، إذ يمرّ سريعاً على هذه المرحلة المزدحمة بالتركيز على علاقته بليناردو دي كابريو، الذي يتحدّث عن شريكه بإعجاب مشرق.
معاً، واجها تكرار دورة الانهيار والعودة: من Shutter Island (2010) إلى The Wolf of Wall Street (2013). تسبّب ارتباك «جزيرة شاتر» وقلقه بجعل سكورسيزي يشعر بالذعر أثناء التصوير، بينما كان «ذئب وول ستريت» حفلاً لا ينتهي يغمره النشوة الخالصة.
باستخدام ذكي للمونتاج وتقنية الشاشة المنقسمة، تُظهر ميلر كيف شكّلت حياة سكورسيزي سينماه والعكس صحيح، مستعملةً فيلمنوغرافياه كمنحنى بياني ترسم عليه أفكاره وتجارب حياته. الزواج يتداعى بسهولة، كما في «نيويورك، نيويورك». العنف متغلغل في كل شيء، كما في Taxi Driver. وفوق كل شيء، يجب كبح الغضب الذكوري ليتحول إلى نظيره الأقبح، العنف، كما في «الثور الهائج» وMean Streets ومعظم أفلامه الأخرى.
تلمّح ميلر إلى مَيل سكورسيزي لنوبات الغضب طوال الفيلم، وتنفجر ضاحكة عندما يروي لها أنّه كاد يُهدِّد المديرين التنفيذيِّين لفيلم «سائق التاكسي» بالسلاح، لكنّها تؤجّل الغَوص العميق في جانبه الحاد إلى النهاية. ضحايا غضبه كانوا في الغالب هواتف محطّمة، لكن لا يزال من الصادم سماع مساعدته السابقة تتحدّث عن التوتر في أيامه السيّئة.
وربما أوضح تعليق جاء من كاتب السيناريو جاي كوكس، يلخّص ما وصل إليه سكورسيزي في سنواته المتأخّرة: «تعلّم أنّ الفنان يمكن أن يكون أنانياً في فنّه، لكّنه ليس مضطرّاً لأن يكون أنانياً في حياته». بعبارة أخرى، حتى «الأنبياء» يمكنهم أن يجسّدوا الروح الإنسانية.