العالم كمستشفى بلا جدران
العالم كمستشفى بلا جدران
أسماء ربيع المنهالي
Saturday, 15-Nov-2025 06:34

أعتقد أنّ العالم قد تحوّل إلى مستشفىٍ كبيرٍ للأمراض العقلية، لكن من دون جدران، من دون أسوارٍ أو بوّابات.

لم يعُد الجنون نقيضَ العقل، بل صار شكله الآخر، وجهه الذي خجل من الظهور، فارتدى قناع الوعي، وتسلّل إلى الحياة اليومية بهدوءٍ مريب.
الكلّ يتجوّل في هذا المستشفى الواسع بحرّيةٍ تامّة، يحمل اضطرابه كهويةٍ تعريفية، ويستعمل كلماته كعقاقير تُسكِّن لحظات وعيه الزائد.
لم نَعُد نحتاج إلى غرف العزل ولا إلى الممرّات البيضاء، فالعالم كلّه أصبح ممرّاً واحداً طويلاً يمتدّ من الشاشات إلى العقول، ومن الأفكار إلى الأوهام، ومن الحقيقة إلى ما يشبهها.
الضجيج هو اللغة الرسمية لهذا العصر، والصمت فعل مقاومةٍ لا يُغفَر. مَن ينسحب ليفكّر، يُتَّهَم بالغرابة، ومَن يجرؤ على القول "أنا لستُ بخير"، تُلقى عليه نصائح التحفيز كالحجارة.
لقد أصبحنا نرتدي الأقنعة لا لنُخفي وجوهنا، بل لننجو من الضوء، من فحص العيون المتعبة التي تراقبنا في كلّ لحظة.
أصبحت الشاشات أسِرّة المرضى، ومواقع التواصل أجنحةً للعلاج الوهمي، حيث يتبادل الناس الهذيان بدل الحوار، والعرض بدل الجوهر، والإنعزال بدل اللقاء.
يُعرّي الناس أرواحهم فيها ثم يصفّقون لأنفسهم على ما تبقّى من كسرهم. كلّ شيءٍ صار قابلاً للعرض، حتى الألم. كأنّ الإنسان لم يعُد يبحث عن الخلاص، بل عن جمهورٍ يراه وهو يتألّم بذكاءٍ جمالي.
العالم فَقَد اتّزانه، لكنّه ما زال يبتسم أمام الكاميرا. يتظاهر بالصّحة، وهو في الحقيقة يعيش انهياراً جماعيّاً بملامح أنيقة تتماشى مع "الترند".
نعم، نحن نعيش في زمنٍ فَقدَ بوصلته، يخلط بين الوعي والإرهاق، وبين الحرّية والفوضى. كلُّ شيءٍ يُبرَّر باسم التقدّم، حتى الجنون أصبح شعاراً للتميّز.
في زمن جبران، كان الجنون نوعاً من الوحي، صرخةً في وجه عالمٍ نام على وعيه. أمّا في زمننا، فقد صار الوعي ذاته عبئاً، انكشافاً أكثر مما يحتمل القلب.
إنّ مَن يرى بوضوحٍ في هذا العالم، يُصاب بالدوار؛ فالحقائق الكثيرة لا تشفي، بل تجرح، والعقل حين يفيض عن طاقته، يتحوّل إلى سجنٍ من الإدراك المفرط.
لقد فَقَد الإنسان المعاصر اتصاله بجذره الأوّل. لم يعُد ينظر إلى السماء إلّا عبر عدسة، ولا إلى وجهه إلّا في انعكاسٍ رقميٍّ معدّل. أصبح يبحث عن ذاته في صورٍ لا تشبهه، ويستمدّ وجوده من إعجاب الآخرين، كأنّ الحياة لا تُعاش، بل تُعرض.
لم نعد نسأل: هل هذا طبيعي؟ بل هل هذا شائع؟ وكأنّ الإجماع أصبح مقياس العقل. الضجيج لا يترك مجالاً للصمت، والصمت بات يُخيف الناس أكثر من الصراخ.
لقد استبدلنا العمق بالسرعة، والصدق بالتصميم الجميل، والعلاقات الإنسانية بالاتصال المستمر من دون حضور. أصبحنا نخاف من النظر في أعين بعضنا، كأنّنا نخشى أن نرى الجنون المتبادل الذي نحمله جميعاً.
وربما... لا نحتاج إلى معجزةٍ كبرى، بل إلى عودةٍ صغيرة نحو الإنسان فينا.
إلى لحظة صدقٍ لا تُبثّ، وإلى نظرةٍ لا تبحث عن كاميرا لتوثّقها.
ربما العلاج يبدأ حين نعترف أنّنا مرضى - لكنّنا ما زلنا نحب، وما زلنا نحلم، وما زلنا نبحث عن معنى.
أن نعترف أنّنا خائفون، متعَبون، لكنّ في داخلنا طفلاً ما زال يُصدّق أنّ النور ممكن. فالعالم وإن بدا مستشفىً بلا جدران، يبقى في كلّ زاويةٍ منه قلبٌ يستيقظ، ينصت، يهدأ، ويقول: "ما زلت أؤمن بالإنسان... على رغم من كلّ شيء".

theme::common.loader_icon