الصراخ السياسي مجرّد «كتاب مفتوح»... وليس الحل
الصراخ السياسي مجرّد «كتاب مفتوح»... وليس الحل
محمود القيسي
Tuesday, 11-Nov-2025 06:42

يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: «في عالم يُفضّل الوهم، مَن يقول الحقيقة يُعاقب»!


الثقة الحقيقية ليست في الصراخ كما هو البعض في أيامنا هذه... بل في أن تعرف متى تصمت، ومتى تتراجع، ومتى تقول: لا أعلم. نعم، هناك مَن يزيد الجهل لديهم الثقة بالنفس! بين الثقة والصمت هي المسافة عينها بين الجاهل والعاقل: حين ينتصر الضجيج على الحكمة، حين تتحوّل قلّة الوعي إلى شجاعة زائفة، ويُصبح التواضع العقلي عيباً في زمن الضجيج. العمق في الوعي الذاتي هو أن تعترف باحتمالية الخطأ، وأنّه ليس ضعفاً، بل قمّة النضج.

الفيلسوف برتراند راسل، حين سُئل إن كان مستعداً أن يموت من أجل أفكاره، أجاب «لا، لأنّي لستُ واثقاً منها»، ثم أضاف مقولته الخالدة: «العقلاء دائماً يشكّون في أفكارهم ومعتقداتهم، بينما الحمقى هم أكثر الناس تمسّكاً بآرائهم. الجهل يُولّد اليقين، والمعرفة تُولّد الشك».

 

في علم النفس، تُعرَف هذه الظاهرة بتأثير دانينغ-كروغر، وهي آلية إدراكية تجعل الأشخاص الأقل كفاءة يُبالغون في تقييم قدراتهم. كلّما قلّ علمك، زاد يقينك، وكلّما زاد وعيك، قلّ حسمك. هذا يفسر لماذا: يُجاهر الجاهل بثقة مطلقة في رأيه، بينما يتردّد الحكيم قبل أن يُطلق حكماً، لأنّ الأول لا يرى إلّا زاوية واحدة، بينما الثاني يرى الأبعاد المعقّدة كلها التي لا تُرى لأول وهلة!

 

تأثير دانينغ-كروغر (Dunning-Kruger effect) هو انحياز معرفي يُشير إلى مَيل الأشخاص غير المؤهلين للمبالغة في تقدير مهاراتهم بسبب عدم قدرتهم على التنافس والمعرفة والتفريق بين الشخص الكفء وغير الكفء أو يعانون.

 

إنّه انحياز استعرافي يُشير إلى مَيل الأشخاص غير المؤهلين إلى المبالغة في تقدير مهاراتهم بسبب عدم قدرتهم على التنافس والمعرفة والتفريق بين الشخص الكفء وغير الكفء، أو «يعانون من وَهم التفوّق». مبالِغون في قدراتهم المعرفية بشكل يجعلها تبدو أكبر ممّا هي عليه في الحقيقة، وينتج التحيّز المعرفي لوهم التفوّق من انعدام قدرة هؤلاء الأشخاص على إدراك الإدراك، فمن دون إدراك الذات لا يُمكن لهؤلاء الأشخاص أن يُقيّموا ذواتهم بشكل عادل!

 

جرت العادة في بعض المجتمعات المتخلّفة أن يُكافَئ الجهل الواثق، والمفارقة الموجعة أنّ المجتمعات الحديثة تميل إلى تصديق مَن يتحدّث بثقة، لا مَن يتحدّث بعمق. مَن يصرخ ويقسم ويؤكّد يُصبح مؤثراً، حتى لو كان جاهلاً. بينما مَن يقول «لا أعلم» أو «ربما»، يُتّهم بالضعف أو التردّد.

 

الحقيقة هي أنّ الشك علامة ذكاء. وأنّ التواضع الفكري هو ما يمنع العاقل من التطرّف، لا العجز عن اتخاذ موقف. واللاوعي في العلاقات هو مَن يقود مَن في العلاقات.

 

ونرى هذا الصراع بين ثقة الجاهل وتردّد العاقل يتكرّر: رجل جاهل يفرض رأيه بقوّة ويكسب ولاء البعض، وآخر عميق يشرح ويُقنع ويُحاور، لكن يُنظر إليه كمُربَك، ذلك لأنّ اللاوعي الجمعي ينجذب إلى الصوت العالي، لا إلى الفكرة الناضجة.

 

لذا، لا تجعل شكّك ضعفاً، إذا كنتَ تشكّ في رأيك، فربّما لأنّك تفكر. إذا كنت لا ترفع صوتك، فربما لأنّك تحترم المعنى، ولا تغرّنك الأصوات العالية، فالأعمق عادةً لا يصرخ!

 

في رأيي أنّ «حزب الله» سقط كنموذج في منظومة حُكم ولاية الفقيه ومداها التنظيمي والإجرائي، وهو لا يُريد لبنان الكيان السيّد والمستقل عن النفوذ الإيراني على رغم من كل ما جرى. بل يُريده على صورته ومثاله جزءاً لا يتجزّأ، أو جزءاً عضوياً من «أرخبيل» الوصاية. يريده خارج انتمائه وهويّته العروبية، جسداً «مصلوباً» على ورقة «الكلوروفيل» الخضراء المزوّرة أو المُبيّضة، و«مُلحقاً» جيوسياسياً في النفوذ «الإمبراطوري» الفارسي. يُريده في «فخ» الولاية وتقاطعاتها العبثية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة.

theme::common.loader_icon