الأرواح لا تلتقي صدفة
الأرواح لا تلتقي صدفة
آية يوسف المسلماني
Monday, 10-Nov-2025 06:24

«ليست الصدفة مَن تجمعنا، بل نداء الأرواح الذي لا يُسمع». هل حدث أن التقيتَ شخصاً لا تعرفه، ومع ذلك شعرت بأنّك تعرفه منذ زمنٍ بعيد؟ أن تخفقَ روحكَ لوجهٍ لم تَرَه من قبل، وتستيقظ في داخلكَ ألف ذكرى لا تدري من أين جاءت؟

ذلك الشعور المبهَم لا يمكن تفسيره بالعقل، لأنّ ما يحدث هناك لا يتعلّق بالبصر، بل بالبصيرة. بذاك العالم الخفيّ الذي تتجاذب فيه الأرواح كما تتجاذب النجوم في الفضاء البعيد.

يُقال في معنى ما كتبه جبران خليل جبران، إنّ المحبّة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحيّ، لا وليدة الملامسة الجسدية.

 

فالألفة الحقيقية لا تولد من كثرة اللقاءات، بل من انسجامٍ خفيّ بين روحَين تتعرّفان إلى بعضهما من النظرة الأولى، كما تتعرّف النسمة إلى عطر الزهر الذي خُلقت له.

قد يجلس قربك غريب لبضع دقائق، فيترك فيك أثراً لا يُمحى، وقد تشارك آخرين أعواماً طويلة من دون أن تشعر تجاههم بأي صلة.

 

الأرواح لا تقيس الألفة بالزمن، بل بالصدق. فهي لا تحتاج إلى مقدّمات طويلة لتنجذب، بل إلى ومضة واحدة من النور تكشف التشابه بين جوهرَين.

كتب نيتشه ذات يوم: «لا أحد يلتقي أحداً عبثاً، فكل لقاءٍ يحمل معنى خفياً من القدر». إنّها الجاذبية اللامرئية التي تجمع الأرواح المتشابهة، كما يجمع البحر أمواجه المتفرّقة في مدٍّ واحد. قد لا نفهمها، لكنّنا نوقنها كما نوقن أنّ شيئاً فينا يعرف طريقه حتى في العتمة.

 

كم من مرّةٍ وجدتَ نفسك تُفكّر في أحدهم من غير سبب؟ أو شعرت أنّ وجوده حولك يملؤك طمأنينة لا تُفسَّر؟

 

ذلك ليس وهماً، بل تردّد الأرواح وهي تتخاطر عبر المسافات. فالطاقة التي تربط القلوب لا تحتاج إلى لمسٍ أو صوت، يكفي أن تتشابه النغمة ليهتز القلب من البعيد. الأرواح مثل الموسيقى، تعرف لحنها وإن لم تسمعه من قبل.

 

ولهذا كتب دوستويفسكي: «هناك أناس يدخلون حياتك كالموسيقى، ثم لا يخرجون منها أبداً، حتى وإن رحلوا». هؤلاء لا يغيبون فعلاً، بل يسكنون أعماقنا كلحنٍ لا يُنسى، نستحضره في لحظات الهدوء والحنين.

 

الروح تعرف رفيقها كما تعرف الطيور اتجاه هجرتها في السماء. تميل إلى مَن يُشبهها في الضوء، وتنفر ممَّن يطفئ بريقها، مهما اقترب جسده أو طالت العِشرة.

فليس كل اقتراب دفئاً، ولا كل بُعدٍ نسياناً. هناك مَن تلتصق بهم الأرواح حتى لو فرّقتهم المسافات، وهناك مَن يمرّون كالغرباء وإن لامسونا كلّ يوم.

 

يقول الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا: «الروح تعرف رفيقها قبل أن ترى وجهه».

 

وهذا ما يفسّر دهشتنا حين نلتقي مَن يُكمّلنا من دون مقدّمات، مَن يفهمنا من دون شرح، ويشبهنا في الصمت قبل الكلام. ذلك هو التجاذب الحقيقي، لا بين الأجساد، بل بين النفوس التي خُلقت لتتلاقى مهما طال انتظارها.

 

ليست المحبّة قراراً نُصدره، ولا صدفة نعيشها، بل توفيق بين نفسَين تتقاطعان في لحظةٍ كتبها القدر.

 

وحين يحدث اللقاء، لا يحتاج إلى تفسير، لأنّ الروح حين تجد بيتها، تسكن وتطمئن. أمّا حين تُغلق الأبواب، فلن يفتحها المنطق ولا الكلمات، لأنّ ما لم يُكتب في السماء لا يُعاش على الأرض.

 

نحن لا نحب حين نريد، بل حين يُسمع النداء الخفيّ في القلب، فيستجيب له صدى بعيد في قلبٍ آخر. حينها فقط نُدرك أنّ الأرواح لا تلتقي صدفة، بل تستجيب لقدرٍ كان يكتبها منذ أول الضوء.

 

لكنّ الغموض يبقى في ما بعد اللقاء: هل نُكمل ما بدأته الأرواح، أم نخاف من نوره فنغلق الباب؟

 

ربما الجمال كلّه في تلك اللحظة التي لا تُقال، إذ تتردّد الأرواح بين الاقتراب والغياب، كأنّها تعرف أنّ بعض اللقاءات خُلقت لتظل ناقصة... لتبقى أبدية.

theme::common.loader_icon