ثلاثية: حين يشبهك الرماد!
ثلاثية: حين يشبهك الرماد!
آية يوسف المسلماني
Thursday, 06-Nov-2025 06:18

احتراقٌ أنيق وليلٌ يشبهك...

الليل ناعم... يلتفّ حولي كوشاحٍ أسود يُخبّئ ارتجاف قلبي.

الموسيقى تتسلّل بخفّةٍ من زاوية الغرفة، كأنّها تعرف سرّي... ذلك الشغف الذي أحاول إخفاءه كلّما نظرتَ إليّ.

 

أنتَ هناك، سيجارتك تتوهّج بين أصابعك، والنار الصغيرة تراقص ظلّ وجهك.

كل نفسٍ تأخذه منها يوقظ داخلي شيئاً لا اسم له، رعشة تمرّ في صدري كهمسة ممنوعة.

دخانها يلتفّ حول ملامحك، يغار منه القمر، ويتمنّى لو كان هو الذي يلامسك بهذا القرب.

 

أراك ولا أراك... نصفك في الضوء، ونصفك في العتمة... وكلا النصفَين يستوطنان أعماقي.

تتحدّث الموسيقى بلغةٍ لا يسمعها أحد سوانا، وأفهمها كما أفهم نظرتك حين تصمت.

تلك النظرة التي تشعلني من دون أن تلمسني.

 

تذوب سيجارتك ببطء، وأنا أذوب معها.

أشعر أنّ النار التي تلتهم رمادها خرجت من داخلي أنا، من مكانٍ صغيرٍ في القلب لم يتعلّم الانطفاء.

أنت والموسيقى والليل والسيجارة...

أربعة وجوهٍ لشغفٍ واحد، وجعي الجميل الذي لا أريد له أن يزول.

 

وفي كل نفسٍ يرحل منك، يولد بروحي احتراقٌ جديد...

لا يُطفأ، ولا يُنسى.

أحب هذا الليل لأنّه يشبهك: غامض، هادئ، ومليء بالأشياء التي تشتعل من دون أن يراها أحد.

 

(الجزء الثاني)

من ثلاثية حين يشبهك الرماد

رماد الصباح...

الصباح بارد... والضوء يتسلّل بخجلٍ من خلف الستائر، كأنّه يخشى أن يوقظ ما تبقّى من ليلٍ ما زال عالقاً بي.

رائحة القهوة تتصاعد في المكان، تختلط ببقايا دخانٍ لم يغادرني بعد.

 

كل شيء ساكن، إلّا قلبي...

ما زال ينبض بإيقاع الموسيقى التي خَمَدَ صَوتها منذ ساعات.

ألمسك في الهواء، في الكرسي الفارغ، في الفنجان الذي تركت عليه أثر شفتَيك.

كأنّ وجودك لا يزال هنا، حيّاً في تفاصيل المكان،

وفي ذاك الوهج الصغير الذي تركته بين ضلوعي.

 

أحاول أن أكتب، لكنّ الحروف تخرج دافئة مثلك... غامضة مثلك...

كأنّك تسكن بين السطور، تتنقّل بينها بخطواتٍ هادئة، لا تُحدث ضجيجاً، لكنّك تملأ النَصّ كلّه.

يا لهذا الصباح، كم يبدو ناقصاً من دون ظلّك.

حتى ضوء الشمس يبدو بارداً، كأنّه يبحث عن دفء سيجارتك الأخيرة.

 

أبحث عنك في فوضى الأشياء الصغيرة...

ولاّعة على الطاولة، رمادٌ في المِطفأة، ومنديلٌ يحمل عطر يديك.

كل شيء يذكّرني بأنّ الليل لم ينتهِ،

بل تمدّد داخل الصباح... مثل قبلةٍ لم تجفّ بعد.

 

أُدرك الآن أنّ السرّ ليس في الاحتراق، بل في ما يتركه بعده من رمادٍ جميل...

رمادٍ يشبهك، يشبه الهدوء الذي يسبق عودتك،

ويُشبه قلبي حين يشتاق.

 

(الجزء الثالث)

من ثلاثية حين يشبهك الرماد

همس المساء

المساء يعود بملامحٍ تشبهك...

 

هادئ، متردّد، يقترب بخطواتٍ خفيفة كأنّه يخاف أن يوقِظ ما ظننتُه نام في قلبي.

السماء تميل إلى الرمادي، والهواء يحمل برودةً تُشبه وِحدتي، تلك النظرة الأخيرة التي تركتها في عينيّ.

المدينة تمتلئ بأضوائها، وأنا أراقبها كما كنتُ أراقبك من بعيد، بخوفٍ يشبه الحنين.

 

أجلس في ذات المكان، أتناول الشاي ببطءٍ يشبه الانتظار، وبهدوءٍ لا يشبه الهدوء في داخلي، وأتظاهر بالاعتياد، لكنّ شيئاً في داخلي ما زال يحنّ إلى فوضاك.

كل زاوية في الغرفة تتذكّرك،

والضوء حين ينعكس على الزجاج، يرسم ملامحك للحظةٍ ثم يختفي.

 

حتى الهدوء من حولي يحمل صدى صوتك،

والمقاعد الفارغة تشبه غيابك بطريقةٍ مؤذية وجميلة في آنٍ واحد.

كم يشبهك هذا المساء... يبدأ هادئاً، ثم يشتعل في منتصفه من دون سببٍ واضح.

 

أُشْعل شمعة وأراقب اللهب كيف يرتجف، كيف ينسى نفسه للحظةٍ قبل أن يستقر.

أسمع صوت الموسيقى، كأنّها تحاول أن تستدرجني إلى تلك الليلة، إلى الاحتراق الأول.

لكنّي لا أهرب هذه المرّة، أتركها تفعل بي ما تشاء،

فقد تعلّمت أنّ بعض الشَوق لا يُشفى، بل يُعاش مراراً ببطءٍ جميل.

 

أفكّر أنّنا نحن أيضاً كنّا هكذا...

نشتعل سريعاً، ثم نحاول أن نبدو بخير.

الليل يقترب، وأنا أعدّ الدقائق كأنّها جسورٌ نحوك.

 

ربما تعود، وربما لا،

لكنّني أعلم أنّ شيئاً منك يسكن المساء،

في نغمةٍ، أو في رائحة الدخان، أو في رعشة الضوء على الجدار.

وهكذا، يستمرّ الاحتراق بهدوءٍ لا يُرى...

جميلٌ كذكراك...

 

ما بين ليلٍ يشتعل، وصباحٍ يهدأ، ومساءٍ ينتظر،

يبقى منك ما لا يُطفأ...

ظلّك، وصوتك، ورمادٌ من دفءٍ يشبهك أكثر من أي شيءٍ آخر.

هو دافئٌ كأول نظرةٍ بيننا،

حين بدأ كل هذا الرماد... يشبهك.

theme::common.loader_icon