عندما انتهت الحرب الأهلية السورية التي استمرّت نحو 14 عاماً العام الماضي، مع الإطاحة بالديكتاتور بشار الأسد، ابتهج كثير من السوريِّين بفرصة العودة أخيراً إلى المنازل والأراضي التي هجروها.
تسبّبت الحرب في تهجير أكثر من نصف سكان البلاد، إذ فرّ ملايين الأشخاص إلى دول أخرى، فيما بحث كثيرون غيرهم عن مناطق أكثر أماناً داخل الحدود السورية.
لكن اليوم، أدّت المرحلة الانتقالية المتعثّرة نحو قيادة جديدة إلى موجات جديدة من النزوح، مدفوعة بأعمال انتقامية، عنف طائفي، نزاعات عقارية قديمة، واحتلال إسرائيلي لأراضٍ في جنوب سوريا.
بين كانون الأول 2024 وتموز 2025، جرى تهجير أكثر من 430 ألف شخص داخل سوريا، وفقاً للأمم المتحدة. ولم تُعفَ أي مجموعة من بين الطوائف والمكوّنات العرقية والدينية المتنوّعة في البلاد من الاضطراب، الذي امتدّ إلى مناطق متعدّدة.
وكانت أكبر موجات النزوح في محافظة السويداء الجنوبية، حيث اندلعت اشتباكات دامية في أوائل تموز. بدأت المواجهات بين الدروز في السويداء وجيرانهم من البدو.
عندما اندلع العنف، أقرّت ريم الحوران، وهي من سكّان قرية بدوية قريبة، أنّها راقبت بخوف الأحداث لأكثر من أسبوع. التوترات القديمة بين الدروز والبدو، المنحدرين من قبائل رحّل، سرعان ما تحوّلت إلى إراقة دماء.
وسرعان ما استدرج العنف عناصر موالية للحكومة في دمشق، واتخذت الأحداث طابعاً طائفياً أكثر تأثيراً. فالبدو، مثل قادة سوريا الجدد، ينتمون إلى الأغلبية السنّية المسلمة.
وقد تحدّت الميليشيات الدرزية التي تسيطر على محافظة السويداء، جهود الحكومة لدمجها في الجيش الوطني وإخضاع كامل المحافظة لسلطة القيادة الجديدة في البلاد. ويأتي ذلك ضمن محاولة أوسع من الحكومة لإعادة توحيد البلاد، بعد الانقسامات التي خلّفتها الحرب الأهلية وقسّمت سوريا إلى مناطق سيطرة متعدّدة.
في ذروة الاشتباكات في عاصمة السويداء، أوضحت الحوران، أنّ قريتها «شهبا»، الواقعة على بُعد نحو 10 أميال، كانت هادئة. ومثل السويداء، كانت شهبا أيضاً تضمّ سكاناً من الدروز والبدو معاً. لكنّ كل شيء تغيّر صباح 17 تموز، حين صعد مسلّحون دروز إلى سطح مبنى قرب منزلها، وأعلنوا عبر مكبّرات الصوت أنّ على جميع سكان القرية من البدو مغادرتها خلال ساعة، بحسب رواية الحوران (43 عاماً) وزوجها محمد (42 عاماً).
هربت مع عائلتها إلى منزل أحد أقاربها، ليحتموا برعب لمدة 3 أيام. ثم تولّى الهلال الأحمر السوري إجلاء أفراد أسرتها ومئات البدو الآخرين في حافلات. فانتهى بهم الأمر في ضواحي العاصمة دمشق. وعلى رغم من المخاطر التي واجهوها أثناء أعمال العنف، أكّدت أنّهم يتوقون بشدة للعودة إلى ديارهم.
وأضافت، وهي موظفة حكومية تعمل في مؤسسة المياه المحلية، متسائلة عن المسلحين الدروز: «على أي أساس طردونا من منازلنا؟ هذا بيتي وأرضي، وبالطبع سأعود».
ووفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، قُتل أكثر من 1300 شخص، بينهم نحو 400 مدني معظمهم من الدروز. بينما ذكرت مجموعة مراقبة أخرى أنّ الحصيلة كانت أعلى من ذلك.
وقد تحققت صحيفة «نيويورك تايمز» من أنّ قوات الأمن الحكومية نفّذت على الأقل عملية إعدام واحدة بحق مدني درزي، ووثّقت 4 عمليات إعدام أخرى لمدنيِّين دروز، نفّذها بعض الرجال بزيّ عسكري.
كما ساهمت النزاعات حول الأراضي ومُلكِية العقارات في تفاقم موجات النزوح. وفي بعض نزاعات الأراضي، حاول أشخاص يسعون لاستعادة ممتلكاتهم طرد السكان الحاليِّين، وفقاً لمسؤولي الأمم المتحدة والشرطة المحلية ومنظمات حقوقية. وبينما صودرت بعض هذه الأراضي خلال الحرب الأهلية، تعود نزاعات أخرى إلى عقود سابقة. كثير من الحالات ناتج من سياسة نظام الأسد في مصادرة أراضٍ من بعض الفئات ومنحها لأخرى موالية، مثل الطائفة العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد.
في أواخر آب، فرّ مئات العلويِّين من ضاحية «السمّارية» في دمشق، بعدما أُبلغوا من قِبل قوات الأمن بأنّ مسؤولاً من مكتب المحافظ سيأتي لتفقد وثائق ملكية الأراضي، يعقبها مداهمات، وفقاً لسكان محليِّين والمرصد السوري لحقوق الإنسان.
وفي اليوم التالي لإبلاغ البلدة بموعد التفتيش، داهمت مجموعات مسلّحة تابعة للحكومة الجديدة منازل، واحتجزت سكاناً محليِّين لفترة وجيزة، بحسب مسؤول محلي وأحد السكان الذين طلبوا عدم الكشف عن هويّتهم خوفاً من الانتقام.
وفي الأيام التالية، أعلن محافظ دمشق ماهر مروان إدلبي، أنّ ما حدث في السمّارية كان نتيجة عقود من مصادرة الأراضي بشكل غير قانوني وصفقات عقارية فاسدة في عهد نظام الأسد. ودعا إدلبي الناس إلى ترك الأمر للسلطات المختصة للفصل في مُلكيات الأراضي، محذّراً السكان من «أخذ القانون بأيديهم حتى لا تعمّ الفوضى».
وكشفت امرأة علوية (32 عاماً)، طلبت عدم الكشف عن اسمها خوفاً من الانتقام، أنّها ومع سكان آخرين، جهّزوا وثائق ملكياتهم تحسّباً للتفتيش. وأُبلغوا بأنّ لجنة حكومية ستأتي، لكنّهم فوجئوا بقدوم قوات مسلّحة بدلاً منها. وأضافت أنّ نحو 20 ضابطاً يرتدون الزيّ العسكري، بعضهم ملثمون، اقتحموا حيّها، وكسروا باب منزلها وجرّوها من شعرها، وأمطروا إياها وإخوتها بإهانات طائفية. وأكّدت أنّ السبب الوحيد الذي منعها من مغادرة الحي، كما فعل جيرانها، هو أنّها لا تملك المال ولا مكاناً آخر تذهب إليه.
وأعلنت وزارة الإعلام السورية، لدى سؤالها عن اتهامات العنف والإهانات اللفظية، أنّ سكان السمّارية «كانوا يقيمون على أراضٍ مملوكة للدولة بطريقة غير قانونية»، فأبلِغوا عبر السلطة المدنية الرسمية.
وفي محافظة القنيطرة الجنوبية، قرب الحدود مع إسرائيل، اجتاحت القوات الإسرائيلية بلدات سورية بعد أيام من سقوط النظام. ثم وسّعت إسرائيل احتلالها مدمّرةً المنازل ومهجّرةً المدنيِّين، وفقاً لمسؤولين محليِّين ومنظمة «هيومن رايتس ووتش».