الدولة أولاً في كامل وظائفها السيادية
الدولة أولاً في كامل وظائفها السيادية
طوني عطاالله
Tuesday, 28-Oct-2025 07:02

تكثر في المرحلة الراهنة مقالات وسجالات سياسية ودعوات، تارة للاتفاق على استراتيجية للأمن الوطني، وطوراً على مواضيع أخرى تساهم في تحريف المفاهيم، عمداً أو عن غير دراية، فيما تُعقَد اجتماعات بعيداً من الأضواء، هدفها الفعلي ليس البحث عن حلول للأزمات بقدر ما تساهم في التلاعب بالمفردات السياسية والحقوقية وتفريغها من معناها. هذه المحاولات تهدف في جوهرها إلى حرف الأنظار عن المعضلة الأساس التي تواجه لبنان وهي: استعادة الدولة!

كل ما ورد في اتفاق الطائف من بنود غير مطبّقة، أياً تكن أهمّيتها، يبقى بلا جدوى إذا لم تُستعاد الدولة أولاً. فالدستور، والميثاق، وحتى فكرة الكيان اللبناني برمّته، لا قيمة لها إن لم تُسترجَع الدولة، وتبسِط الحكومة «سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قوّاتها الذاتية»، كما نصّ اتفاق الطائف، ويُشدِّد عليه رئيس الحكومة القاضي الدكتور نواف سلام في العديد من خطاباته السياسية.

 

بعد استغلال فكرة الميثاق والميثاقية والدستور والأكثرية والأقلية وتحريف مفهوم الثلث الضامن ليُصبح وسيلة لتعطيل المؤسسات وشلّ الحياة الدستورية، ولهيمنة أقلية على أكثرية، جاء الدور الآن لاغتيال الدولة وتشويه مفهوم السيادة. تتردّد أصوات تدعو إلى ما تُسمّيه «نسبية السيادة»، وكأنّ السيادة ليست مبدأً مطلقاً، بل مادة قابلة للمساومة والتأويل والمخادعة. هذه الطروحات ليست بريئة، إذ إنّها تُمهّد لتبرير الهيمنة الفئوية والاستقواء وتدخّل الخارج في الشؤون الداخلية وتبرئة المتدخّلين المحليِّين من مسؤولية ضرب الدولة والإجهاز على ما تبقّى لها من مقوّمات. هل المطلوب شطب مصطلح السيادة من القاموس اللبناني؟

 

جاء في أحد المقالات بعنوان: «ليست الدولة حبيبتي»، العبارات التالية: «يزداد الخضوع إلى الدولة حتى العَمى، من الضروري رفع الصوت ضدّ صنمية الدولة، أي ضدّ الإيمان الأعمى بقداسة المؤسسات، وبعصمة الأنظمة، وبأنّ «القانون» هو الحقيقة النهائية. تحوّلت الدولة الحديثة من وسيلة لتنظيم الشأن العام إلى موضوع عبادة سياسية. تُرفع أعلامها كما تُرفع الصلوات، وتُكرَّس رموزها كما تُكرَّس الأوثان، ويُقدَّس خطابها وكأنّه وحيٌ لا يُناقش. للدولة رسالتها: أن تكون وسيلة للحرّية والعدالة، لا صنماً يقمعهما... فلنكسر الصنم، قبل أن يُحطّمنا».

 

يصدح هذا النص (لِمَن يتابع قراءته) بالابتعاد عن الدولة كفكرة ومنهج ونشوء، متّهماً المؤسسات بتحوّلها إلى «تماثيل» و«أوثان»، داعياً إلى تفكيكها كما لو كانت عبادةً لا مفرّ منها. استخدم هذا النص أسلوباً أدبياً قد يبدو «جذاباً» للبعض، ليزجّ بداخله مفردات خطيرة: «صنمية الدولة»، «عبادة السيادة»، «الدولة ككائن مقدّس»، و«الطاعة والتذوّب في المصلحة العامة».

 

يُلاحظ في النص أنّه يعتريه الخلط في مفهوم الدولة، إذ يُقصَد بها حيناً الكيان المعنوي أو الجغرافي للبلد وحيناً آخر النظام، وأحياناً مركزية السلطة، وأحياناً أيضاً الحكّام أو الطبقة الحاكمة. لذا ينبغي تفكيك المصطلح كي لا يتعمم التلوث والإلتباس وسوء الفهم.

 

تُستعمَل عبارة دولة لدى الحديث عن 4 وظائف ملكية للدولة (roi وregis وrex): احتكار القوة المنظمة، احتكار العلاقات الدبلوماسية، فرض الضرائب، إدارة السياسات العامة. وأي مساس بهذه الوظائف لا يُضرّ الدولة شكلياً فقط، بل يُقوّض جوهر السيادة، ويُضعِف القدرة على حماية الحقوق الأساسية للمواطنين.

 

ورد في اتفاق الطائف: (3. الإصلاحات الأخرى، البند 1 تحت عنوان: اللامركزية الإدارية) إنّ «الدولة اللبنانية واحدة موّحدة ذات سلطة مركزية قوية». فإذا كان أحد المواطنين مستاء من موظف إحدى الإدارات العامة أو إحدى البلديات لأنّه لم يُنجِز له معاملة، يتعيّن ألّا يتهم الدولة والطائف والميثاق والسلطة! وإذا لم تردم وزارة الأشغال العامة حفرة في الشارع بعد مطالبات متكرّرة، لا يتهم الدولة، بل الوزارة المعنية لأنّها صاحبة الصلاحية. يُستخلص تالياً أنّ:

 

1 - الدولة لا توصف إلّا بذاتها في وظائفها الأربع الملكية وفي مركزيّتها ووحدانيّتها.

2 - أمّا النظام فهو قد يكون ديمقراطياً، أو ديكتاتورياً، أو إشتراكياً، أو شيوعياً، أو علمانياً. وعادةً، هناك خلط بين الدولة والسلطة.

 

3 - تعليم القانون الدستوري منذ عقود يُكرّر ببغائياً أنّ الدولة هي: أرضٌ وشعبٌ ومؤسسات، وهذا خطأ. هذه العناصر تدخل ضمن مقوّمات الأمة Nation. أمّا الدولة فتوصَف بوظائفها. لذا يقتضي مراجعة ما يُدرّسه القانون الدستوري في هذا الموضوع بالذات، لأنّ أجيالاً تربّت على هذه المقولة ولا تعرف وظائف الدولة ولا التمييز.

 

تتمتع الدولة بشخصية قانونية ومعنوية ذات سيادة، وتُكوّن بنفسها ذاتية خاصة تختلف عن ذاتية الحاكمين. إنّ الدولة هي ضمانة لوجود المجتمع، حيث كل الأفراد خاضعون إلى عقد إجتماعي. وأي واقع بديهي يقترح أصحاب اغتيال الدولة كبديل عملي؟ ومَن يَحمي الحقوق العامة والخاصة بعد اغتيال الدولة؟

 

إنّ الدولة في الأنتروبولوجيا وعلم الإجتماع السياسي نشأت بفعل الحاجة إلى مركز لتجسيد مركزية السلطة في سبيل الأمن والحماية. تاريخياً جاء نشوء الدولة قبل الدستور، وفي مرحلة لاحقة أي بعد عقود جاءت مرحلة الدسترة.

 

إنّ اغتيال الدولة يترك المجتمع لقوى الفوضى أو لإقطاعات أو دويلات موازية ورديفة، وهي في لبنان واقعٌ ملموس مجرّب وغير قادر على حماية المواطنين ولا حتى مؤيّدي الفكرة وقادته، ويُمثل أكبر خدمة لاستمرار الاعتداءات المعادية.

 

إنّ الدعوة لتحطيم الدولة والأحداث الثورية، لا تؤسّس بالضرورة لدولة مستقرّة أو مؤسسات منتظمة أو قوانين عادلة. التاريخ مليء بثورات نجحت في إسقاط أنظمة واستبدلتها بأنظمة أخرى أسوأ منها، أو تركت فراغاً مكّن قوى تخلّف من فرض أمر واقع. وللمفارقة، إنّ العدائية للدولة في لبنان أهملت العدو المتربّص على الحدود الجنوبية.

 

ما دامت النظرة إلى الدولة في لبنان، خصوصاً، والعالم العربي على النحو السائد، فقد تظل شرعية الدولة على الأرجح مثار جدل، ما دامت مقاربتها مشوبة بتصوّرات خاطئة، تنمّ عن إدراك بأنّها «مصطنعة» أو وليدة الاستعمار والوعود ومخطّطات رسم الخرائط والحدود، و»أنّ تحطيمها أمر واجب ومشروع!».

theme::common.loader_icon